فصل: اختضاب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


اختضاب

التّعريف

1 - الاختضاب لغةً‏:‏ استعمال الخضاب‏.‏ والخضاب هو ما يغيّر به لون الشّيء من حنّاء وكتم ونحوهما‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الصّبغ والصّباغ‏:‏

2 - الصّبغ ما يصطبغ به من الإدام، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن وصبغ للآكلين‏}‏‏.‏ قال المفسّرون‏:‏ المراد بالصّبغ في الآية الزّيت؛ لأنّه يلوّن الحبّ إذا غمس فيه، والمراد أنّه إدام يصبغ به‏.‏

ب - التّطريف‏:‏

3 - التّطريف لغةً‏:‏ خضب أطراف الأصابع، يقال‏:‏ طرفت الجارية بنانها إذا خضّبت أطراف أصابعها بالحنّاء، وهي مطرّفة‏.‏

ج - النّقش‏:‏

4 - النّقش لغةً‏.‏ النّمنمة، يقال‏:‏ نقشه ينقشه نقشاً وانتقشه‏:‏ نمنمه فهو منقوش‏.‏

صفته ‏(‏حكمه التّكليفيّ‏)‏‏:‏

5 - يختلف حكم الخضاب تبعاً للونه، وللمختضب، رجلاً كان أو امرأةً‏.‏ وسيأتي‏.‏ المفاضلة بين الاختضاب وعدمه‏:‏

6 - نقل الشّوكانيّ عن القاضي عياض قوله‏:‏ اختلف السّلف من الصّحابة والتّابعين في الاختضاب، وفي جنسه، فقال بعضهم‏:‏ ترك الاختضاب أفضل، استبقاءً للشّيب، وروى حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّهي عن تغيير الشّيب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الاختضاب أفضل لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «غيّروا الشّيب، ولا تشبّهوا باليهود»‏.‏ وفي رواية زيادة «والنّصارى»، ولقوله‏:‏ «إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم» فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ العلّة في الصّباغ وتغيير الشّيب هي مخالفة اليهود والنّصارى‏.‏ وبهذا يتأكّد استحباب الاختضاب‏.‏ وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها‏.‏ واختضب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك‏.‏ ثمّ قد كان أكثرهم يختضب بالصّفرة، منهم ابن عمر وأبو هريرة، واختضب جماعة منهم بالحنّاء والكتم، وبعضهم بالزّعفران، واختضب جماعة بالسّواد، منهم عثمان بن عفّان والحسن والحسين وعقبة بن عامر وغيرهم‏.‏ ونقل الشّوكانيّ عن الطّبريّ قوله‏:‏ الصّواب أنّ الأحاديث الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتغيير الشّيب وبالنّهي عنه كلّها صحيحة، وليس فيها تناقض‏.‏ بل الأمر بالتّغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة، والنّهي لمن له شمط فقط، واختلاف السّلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أنّ الأمر والنّهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض‏.‏

7 - وقد جاءت أحاديث في صحيح البخاريّ تدلّ على اختضاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت أحاديث تنفي اختضابه، فمن الأولى‏:‏ ما ورد عن عثمان بن عبد اللّه بن موهب قال‏:‏ «دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر رسول اللّه فإذا هو مخضوب»‏.‏ ومنها ما ورد أنّ ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصّفرة حتّى تملأ ثيابه، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شيء أحبّ إليه منها، وكان يصبغ بها ثيابه حتّى عمامته‏.‏ ومن الثّانية قول أنس رضي الله عنه‏:‏ «ما خضّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنّه لم يبلغ منه الشّيب إلاّ قليلاً، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت»‏.‏ ومنها قول أبي جحيفة رضي الله عنه‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء» يعني عنفقته‏.‏ وقال الشّوكانيّ‏:‏ «لو فرض عدم ثبوت اختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان قادحاً في سنّيّة الاختضاب، لورود الإرشاد إليها قولاً في الأحاديث الصّحيحة»‏.‏ وقال الطّبريّ في الجمع بين الأحاديث المثبتة لاختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأحاديث النّافية لاختضابه‏:‏ «من جزم بأنّه خضّب فقد حكى ما شاهد، وكان ذلك في بعض الأحيان، ومن نفى ذلك فهو محمول على الأكثر الغالب من حاله ‏"‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏

بم يكون الاختضاب‏؟‏

8 - كون الاختضاب بالحنّاء، وبالحنّاء مع الكتم، وبالورس والزّعفران، والسّواد، بغير ذلك‏.‏ أوّلاً - الاختضاب بغير السّواد الاختضاب بالحنّاء والكتم‏:‏

9 - يستحبّ الاختضاب بالحنّاء والكتم، لحديث‏:‏ «غيّروا الشّيب»، فهو أمر، وهو للاستحباب، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم»، فإنّه يدلّ على أنّ الحنّاء والكتم من أحسن الصّباغات الّتي يغيّر بها الشّيب‏.‏ وأنّ الصّبغ غير مقصور عليهما، بل يشاركهما غيرهما من الصّباغات في أصل الحسن لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال‏:‏ اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم، واختضب عمر بالحنّاء بحتاً‏.‏

الاختضاب بالورس والزّعفران

10 - الاختضاب بالورس والزّعفران يشارك الاختضاب بالحنّاء والكتم في أصل الاستحباب‏.‏ وقد اختضب بهما جماعة من الصّحابة‏.‏ روى أبو مالك الأشجعيّ، عن أبيه، قال‏:‏ «كان خضابنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الورس والزّعفران»، وقال الحكم بن عمرو الغفاريّ‏:‏ دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر، وأنا مخضوب بالحنّاء، وأخي مخضوب بالصّفرة، فقال عمر‏:‏ هذا خضاب الإسلام‏.‏ وقال لأخي رافع‏:‏ هذا خضاب الإيمان‏.‏

الاختضاب بالسّواد

11 - اختلف الفقهاء في حكم الاختضاب بالسّواد‏:‏ فالحنابلة والمالكيّة والحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - يقولون‏:‏ بكراهة الاختضاب بالسّواد في غير الحرب‏.‏ أمّا في الحرب فهو جائز إجماعاً، بل هو مرغّب فيه، «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم شأن أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه لمّا جيء إليه عام الفتح، ورأسه يشتعل شيباً‏:‏ اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيّره، وجنّبوه السّواد»‏.‏ وقال الحافظ في الفتح‏:‏ إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد للمجاهدين، ومنهم من رخّص فيه مطلقاً، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء، وقد استدلّ المجوّزون للاختضاب بالسّواد بأدلّة‏:‏ منها‏:‏ قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور أعدائكم»‏.‏ ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يأمر بالخضاب بالسّواد، ويقول‏:‏ هو تسكين للزّوجة، وأهيب للعدوّ‏.‏ ومنها أنّ جماعةً من الصّحابة اختضبوا بالسّواد، ولم ينقل الإنكار عليهم من أحد، منهم عثمان وعبد اللّه بن جعفر والحسن والحسين‏.‏ وكان ممّن يختضب بالسّواد ويقول به محمّد بن إسحاق صاحب المغازي، وابن أبي عاصم، وابن الجوزيّ‏.‏ ومنها ما ورد عن ابن شهاب قال‏:‏ «كنّا نختضب بالسّواد إذ كان الوجه جديداً ‏(‏شباباً‏)‏ فلمّا نفض الوجه والأسنان ‏(‏كبرنا‏)‏ تركناه»‏.‏ وللحنفيّة رأي آخر بالجواز، ولو في غير الحرب، وهذا هو مذهب أبي يوسف‏.‏ وقال الشّافعيّة بتحريم الاختضاب بالسّواد لغير المجاهدين؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد، لا يريحون رائحة الجنّة»، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «في شأن أبي قحافة‏:‏ وجنّبوه السّواد»، فالأمر عندهم للتّحريم، وسواء فيه عندهم الرّجل والمرأة‏.‏

اختضاب الأنثى

12 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغيير الشّيب بالحنّاء أو نحوه مستحبّ للمرأة كما هو مستحبّ للرّجل، للأخبار الصّحيحة في ذلك‏.‏ وتختصّ المرأة المزوّجة، والمملوكة باستحباب خضب كفّيها وقدميها بالحنّاء أو نحوه في كلّ وقت عدا وقت الإحرام؛ لأنّ الاختضاب زينة، والزّينة مطلوبة من الزّوجة لزوجها ومن المملوكة لسيّدها، على أن يكون الاختضاب تعميماً، لا تطريفاً ولا نقشاً؛ لأنّ ذلك غير مستحبّ‏.‏ ويجوز لها - بإذن زوجها أو سيّدها تحمير الوجنة، وتطريف الأصابع بالحنّاء مع السّواد‏.‏ وفي استحباب خضب المرأة المزوّجة لكفّيها ما ورد عن «ابن ضمرة بن سعيد عن جدّته عن امرأة من نسائه قال‏:‏ وقد كانت صلّت القبلتين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قالت‏:‏ دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لي‏:‏ اختضبي، تترك إحداكنّ الخضاب حتّى تكون يدها كيد الرّجل‏؟‏» قال‏:‏ فما تركت الخضاب حتّى لقيت اللّه عزّ وجلّ، وإن كانت لتختضب وإنّها لابنة ثمانين‏.‏ أمّا المرأة غير المزوّجة وغير المملوكة فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏:‏ كراهة اختضابها في كفّيها وقدميها لعدم الحاجة مع خوف الفتنة، وحرمة تحمير وجنتيها وحرمة تطريف أصابعها بالحنّاء مع السّواد‏.‏‏.‏ ويرى الحنابلة جواز الاختضاب للأيّم، لما ورد عن جابر مرفوعاً‏:‏ «يا معشر النّساء اختضبن، فإنّ المرأة تختضب لزوجها، وإنّ الأيّم تختضب تعرّض للرّزق من اللّه عزّ وجلّ» أي لتخطب وتتزوّج‏.‏

وضوء المختضب وغسله

13 - اتّفق الفقهاء على أنّ وجود مادّة على أعضاء الوضوء أو الغسل تمنع وصول الماء إلى البشرة - حائل بين صحّة الوضوء وصحّة الغسل‏.‏ والمختضب وضوءه وغسله صحيحان؛ لأنّ الخضاب بعد إزالة مادّته بالغسل يكون مجرّد لون، واللّون وحده لا يحول بين البشرة ووصول الماء إليها، ومن ثمّ فهو لا يؤثّر في صحّة الوضوء أو الغسل‏.‏

الاختضاب للتّداوي

14 - اتّفق الفقهاء على جواز الاختضاب للتّداوي، لخبر سلمى - مولاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم - «أنّه كان إذا اشتكى أحد رأسه قال‏:‏ اذهب فاحتجم، وإذا اشتكى رجله قال‏:‏ اذهب فاخضبها بالحنّاء»، وفي لفظ لأحمد‏:‏ قالت‏:‏ «كنت أخدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة إلاّ أمرني أن أضع عليها الحنّاء»‏.‏

الاختضاب بالمتنجّس وبعين النّجاسة

15 - يرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ما خضّب أو صبغ بمتنجّس يطهر بغسله ثلاثاً فلو اختضب الرّجل أو اختضبت المرأة بالحنّاء المتنجّس وغسل كلّ ثلاثاً طهر‏.‏ أمّا إذا كان الاختضاب بعين النّجاسة فلا يطهر إلاّ بزوال عينه وطعمه وريحه وخروج الماء صافياً، ويعفى عن بقاء اللّون؛ لأنّ الأثر الّذي يشقّ زواله لا يضرّ بقاؤه‏.‏ ومن هذا القبيل المصبوغ بالدّم ‏(‏فهو نجس‏)‏، والمصبوغ بالدّودة غير المائيّة الّتي لها دم سائل فإنّها ميتة يتجمّد الدّم فيها وهو نجس‏.‏

الاختضاب بالوشم

16 - الوشم هو غرز الجلد بالإبرة حتّى يخرج الدّم ثمّ يذرّ عليه كحل أو نيلة ليخضرّ أو يزرقّ وهو حرام مطلقاً لخبر الصّحيحين‏:‏ «لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنّامصة والمتنمّصة»؛ ولأنّه إذا غرز محلّ الوشم بإبرة ثمّ حشي بكحل أو نيلة ليخضرّ تنجّس الكحل بالدّم فإذا جمد الدّم والتأم الجرح بقي محلّه أخضر، فإذا غسل ثلاثاً طهر‏.‏ ويرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوشم كالاختضاب أو الصّبغ بالمتنجّس، فإذا غسل ثلاثاً طهر؛ لأنّه أثر يشقّ زواله إذ لا يزول إلاّ بسلخ الجلد أو جرحه‏.‏

الاختضاب بالبياض

17 - يكره خضب اللّحية السّوداء بالبياض كالكبريت ونحوه إظهاراً لكبر السّنّ ترفّعاً على الشّباب من أقرانه، وتوصّلاً إلى التّوقير والاحترام من إخوانه، وأمثال ذلك من الأغراض الفاسدة‏.‏ ويفهم من هذا أنّه إذا كان لغرض صحيح فهو جائز‏.‏

اختضاب الحائض

18 - جمهور الفقهاء على جواز اختضاب الحائض لما ورد «أنّ امرأةً سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت‏:‏ تختضب الحائض‏؟‏ فقالت‏:‏ قد كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه»، ولما ورد أنّ نساء ابن عمر كنّ يختضبن وهنّ حيّض‏.‏ وقد قال ابن رشد‏:‏ لا إشكال في جواز اختضاب الحائض والجنب لأنّ صبغ الخضاب الّذي يحصل في يديها لا يمنع من رفع حدث الجنابة والحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت‏.‏ ولا وجه للقول بالكراهة‏.‏

اختضاب المرأة المحدّة

19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة المحدّة على زوجها يحرم عليها أن تختضب مدّة عدّتها؛ لما ورد من حديث لأمّ سلمة قالت‏:‏ «دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين توفّي أبو سلمة فقال لي‏:‏ لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب‏.‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ بأيّ شيء أمتشط‏؟‏ قال‏:‏ بالسّدر تغلّفين به رأسك»‏.‏

خضاب رأس المولود

20 - اتّفق الفقهاء - مالك والشّافعيّ - وأحمد والزّهريّ وابن المنذر على كراهة تلطيخ رأس الصّبيّ بدم العقيقة؛ لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ «مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى»، فهذا يقتضي ألاّ يمسّ بدم لأنّه أذًى، ولما روي عن يزيد بن عبد المزنيّ عن أبيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ «يعقّ عن الغلام ولا يمسّ رأسه بدم» ولأنّ هذا تنجيس له فلا يشرع‏.‏ واتّفقوا على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ‏(‏أي الطّيب‏)‏، لقول بريدة‏:‏ كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفران، ولقول عائشة رضي الله عنها «‏:‏ كانوا في الجاهليّة إذا عقّوا عن الصّبيّ خضّبوا قطنةً بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ اجعلوا مكان الدّم خلوقاً» زاد أبو الشّيخ «‏:‏ ونهى أن يمسّ رأس المولود بدم»‏.‏ أمّا الحنفيّة فإنّ العقيقة عندهم غير مطلوبة‏.‏

اختضاب الرّجل والخنثى

21 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للرّجل أن يختضب في رأسه ولحيته لتغيير الشّيب بالحنّاء ونحوه للأحاديث الواردة في ذلك، وجوّزوا له أن يختضب في جميع أجزاء بدنه ما عدا الكفّين والقدمين، فلا يجوز له أن يختضب فيهما إلاّ لعذر؛ لأنّ في اختضابه فيهما تشبّهاً بالنّساء، والتّشبّه بالنّساء محظور شرعاً‏.‏ وقال أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة بحرمته‏.‏ وقال بعض الحنابلة وصاحب المحيط من الحنفيّة بكراهته وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء»‏.‏ وحكم الخنثى المشكل كحكم الرّجل في هذا‏.‏

اختضاب المحرم

22 - ذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم الاختضاب بالحنّاء في أيّ جزء من البدن ما عدا الرّأس؛ لأنّ ستر الرّأس في الإحرام بأيّ ساتر ممنوع‏.‏ وقد ذكر القاضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ «إحرام الرّجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها»‏.‏ ولا بأس باختضاب المرأة بالحنّاء ونحوه، لما روي عن عكرمة أنّه قال‏:‏ «كانت عائشة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحنّاء وهنّ حرم»‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز للرّجل الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام في جميع أجزاء جسده، ما عدا اليدين والرّجلين فيحرم خضبهما بغير حاجة‏.‏ وكرهوا للمرأة الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام، إلاّ إذا كانت معتدّةً من وفاة فيحرم عليها ذلك، كما يحرم عليها الاختضاب إذا كان نقشاً، ولو كانت غير معتدّة‏.‏ وقال الأحناف والمالكيّة‏:‏ لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحنّاء ونحوه في أيّ جزء من البدن سواء أكان رجلاً أم امرأةً؛ لأنّه طيب والمحرم ممنوع من الطّيب، وقد روي «أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأمّ سلمة‏:‏ لا تطيّبي وأنت محرمة ولا تمسّي الحنّاء فإنّه طيب»‏.‏

اختطاط

التّعريف

1 - الاختطاط مصدر اختطّ‏.‏ واختطاط الأرض هو أن يعلّم عليها علامةً بالخطّ ليعلم أنّه قد احتازها لينتفع بها‏.‏ واختطّ فلان خطّةً إذا تحجّر موضعاً وخطّ عليه بجدار‏.‏ وكلّ ما حظرته فقد خططت عليه‏.‏ والخطّة‏:‏ الأرض يختطّها الرّجل في أرض غير مملوكة ليتحجّرها ويبني فيها، وذلك إذا أذن السّلطان لجماعة من المسلمين أن يختطّوا الدّور في موضع بعينه، ويتّخذوا فيه مساكن لهم، كما فعلوا بالكوفة والبصرة وبغداد ومعنى الاختطاط الوارد في اللّغة هو ما يعبّر عنه الفقهاء بالتّحجير أو الاحتجار بقصد إحياء الموات‏.‏ وتفصيل أحكامه هناك ‏(‏ر‏:‏ إحياء الموات‏)‏‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الاختطاط كما تبيّن يرادفه التّحجير عند الفقهاء، والتّحجير لا يعتبر إحياءً، إنّما هو شروع في الإحياء‏.‏ ولذلك لا يثبت به الملك، ولا يصحّ بيع المتحجّر من الموات، وإنّما يكون المتحجّر أحقّ به من غيره، فإذا لم يعمر كان غيره أحقّ به‏.‏ وهذا في الجملة‏.‏ وتفصيل ذلك في إحياء الموات‏.‏

اختطاف

التّعريف

1 - الاختطاف‏:‏ أخذ الشّيء بسرعة واستلاب‏.‏ ويقول بعض الفقهاء‏:‏ الاختطاف هو الاختلاس، والاختلاس هو أخذ الشّيء علانيةً بسرعة‏.‏ والفرق بين الاختطاف والاغتصاب والسّرقة والحرابة والخيانة كالفرق بين الاختلاس وبين هذه المصطلحات، ‏(‏ر‏:‏ اختلاس‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع على المختطف؛ لأنّ الاختلاس والاختطاف واحد، ولا قطع على المختلس؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع»‏.‏ وقد فصّل الفقهاء أحكام الاختطاف في كتاب الحدود - باب حدّ السّرقة‏.‏

اختفاء

التّعريف

1 - الإخفاء لغةً السّتر والكتمان‏.‏ وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏‏.‏ فهو متعدّ، بخلاف الاختفاء بمعنى التّواري، فإنّه لازم ومطاوع للإخفاء‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإسرار‏:‏

2 - الإسرار لغةً واصطلاحاً هو الإخفاء‏.‏ وقد يأتي بمعنى الإظهار أيضاً كما قال بعضهم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأسرّوا النّدامة‏}‏ أي أظهروها، فهو من الأضداد‏.‏

ب - النّجوى‏:‏

3 - النّجوى اسم للكلام الخفيّ الّذي تناجي به صاحبك، كأنّك ترفعه عن غيره، وذلك أنّ أصل الكلمة الرّفعة، ومنه النّجوة من الأرض، وسمّى اللّه تعالى تكليم موسى عليه السلام مناجاةً، لأنّه كان كلاماً أخفاه عن غيره‏.‏ والفرق بينها وبين الإخفاء أنّ النّجوى لا تكون إلاّ كلاماً، أمّا الإخفاء فيكون للكلام والعمل كما هو واضح، فالعلاقة بينهما العموم والخصوص‏.‏

الحكم الإجماليّ

يتعدّد الحكم الإجماليّ للإخفاء بحسب المواطن الّتي يكون فيها‏:‏

أ - إخفاء النّيّة‏:‏

4 - لم يؤثر عن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشروعيّة التّلفّظ بالنّيّة، ولهذا استحبّ إخفاؤها، لأنّ محلّها القلب ولأنّ حقيقتها القصد مطلقاً، وخصّت في الشّرع بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل مقترنةً به ابتغاء رضاء اللّه تعالى وامتثال حكمه‏.‏ وقيل‏:‏ يستحبّ التّلفّظ بها باللّسان‏.‏ لكن للنّيّة في الحجّ والعمرة حكم خاصّ فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ يسنّ التّلفّظ بالنّيّة في الحجّ والعمرة‏.‏ وقال الحنابلة وهو رأي للمالكيّة‏:‏ يستحبّ النّطق بما جزم به ليزول الالتباس‏.‏ وقال المالكيّة في رأي لهم‏:‏ إنّ ترك التّلفّظ بها أفضل وفي رأي آخر كراهة التّلفّظ بها‏.‏ وقيل يستحبّ التّلفّظ باللّسان‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏نيّة‏)‏‏.‏

ب - إخفاء الصّدقة والزّكاة‏:‏

5 - نقل الطّبريّ وغيره الإجماع على أنّ الإخفاء في صدقة التّطوّع أفضل، والإعلان في صدقة الفرض أفضل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»‏.‏ وقال ابن عطيّة‏:‏ يشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض ‏(‏الزّكاة‏)‏ أفضل، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عرضةً للرّياء‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان المتصدّق ممّن يقتدى به ويتبع، وسلم قصده، فالإظهار أولى‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏صدقة‏)‏‏.‏

ج - اختفاء الهلال‏:‏

6 - إذا اختفى الهلال، وغمّ على النّاس، في شعبان أو رمضان، وجب أن يكمل النّاس عدّة الشّهر ثلاثين يوماً؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين»‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

د - إخفاء الإيمان‏:‏

7 - في اعتبار إيمان من أخفى إيمانه وصدّق بقلبه رأيان‏:‏ الأوّل‏:‏ من صدّق بقلبه بما علم مجيء الرّسول به وأخفى إيمانه ولم يتلفّظ به، اعتبر مؤمناً‏.‏ الثّاني‏:‏ اعتبر البعض أنّ التّلفّظ بالشّهادتين شرط للإيمان أو شطر منه‏.‏

هـ - إخفاء الذّكر‏:‏

8 - اختلف السّلف في الذّكر الخفيّ والذّكر باللّسان من حيث الأفضليّة بينهما، فقال عزّ الدّين بن عبد السّلام وابن حجر الهيتميّ‏:‏ ذكر القلب أفضل من ذكر اللّسان، وذهب القاضي عياض والبلقينيّ إلى ترجيح عمل اللّسان‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏ذكر‏)‏‏.‏

اختلاس

التّعريف

1 - الاختلاس والخلس في اللّغة‏:‏ أخذ الشّيء مخادعةً عن غفلة‏.‏ قيل الاختلاس أسرع من الخلس، وقيل الاختلاس هو الاستلاب‏.‏ ويزيد استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ أنّه‏:‏ أخذ الشّيء بحضرة صاحبه جهراً مع الهرب به سواء جاء المختلس جهاراً أو سرّاً، مثل أن يمدّ يده إلى منديل إنسان فيأخذه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - أ - الغصب أو الاغتصاب‏:‏ هو أخذ الشّيء قهراً وعدواناً‏.‏

ب - السّرقة‏:‏ هي أخذ النّصاب من حرزه على استخفاء‏.‏

ج - الحرابة‏:‏ هي الاستيلاء على الشّيء مع تعذّر الغوث‏.‏

د - الخيانة‏:‏ هي جحد ما اؤتمن عليه‏.‏

هـ - الانتهاب‏:‏ هو أخذ الشّيء قهراً، فالانتهاب ليس فيه استخفاء مطلقاً، في حين أنّ الاختلاس يستخفى في أوّله‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع في الاختلاس؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع»، ولأنّه يأخذ المال على وجه يمكن انتزاعه منه بالاستغاثة بالنّاس وبالسّلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع‏.‏

مواطن البحث

4 - يفصّل الفقهاء أحكام الاختلاس في السّرقة عند الحديث عن الأمور الّتي فيها قطع وما لا قطع فيه، وفي الغصب عند الحديث عمّا يغايره من أنواع أخذ الحقوق من الغير‏.‏

اختلاط

التّعريف

1 - الاختلاط ضمّ الشّيء إلى الشّيء، وقد يمكن التّمييز بينهما كما في الحيوانات، وقد لا يمكن كما في المائعات فيكون مزجاً‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - الامتزاج هو انضمام شيء إلى شيء بحيث لا يمكن التّمييز بينهما، ويختلف عنه الاختلاط بأنّه أعمّ؛ لشموله ما يمكن التّمييز فيه وما لا يمكن‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يختلف الحكم بحسب المسائل الّتي يجري فيها الاختلاط، فقد يكون أثر الاختلاط هو الحرمة‏.‏ وذلك تبعاً لقاعدة‏:‏ إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، كما لو اختلطت المساليخ المذكّاة بمساليخ الميتة دون تمييز، فإنّه لم يجز تناول شيء منها، ولا بالتّحرّي إلاّ عند المخمصة‏.‏ ويجوز التّحرّي إذا كانت الغلبة للمذكّاة كما يقول الحنفيّة‏.‏ وكذلك لو اختلطت زوجته بغيرها فليس له الوطء ولا بالتّحرّي، ومثل ذلك من طلّق إحدى زوجتيه مبهماً، يحرم عليه الوطء قبل التّعيين‏.‏ وقد يكون أثر الاختلاط هو الاجتهاد والتّحرّي غالباً فالأواني إذا كان بعضها طاهراً وبعضها نجساً ولم تتميّز، وكذلك الثّياب إذا اختلط الطّاهر بالنّجس فإنّه يتحرّى للطّهارة واللّبس‏.‏ وهذا عند الجمهور وبعض الفقهاء يقول عدم التّحرّي وهم الحنابلة إلاّ بعضهم‏.‏ وقد يكون أثر الاختلاط هو الضّمان‏.‏ ومن ذلك ما إذا خلط المودع الوديعة بماله ولم تتميّز فإنّه يضمن لأنّ الخلط إتلاف‏.‏ وقد يعتبر الاختلاط إبطالاً لبعض العقود كالوصيّة، فمن وصّى بشيء معيّن خلطه بغيره على وجه لا يتميّز منه كان رجوعاً في الوصيّة‏.‏ ومن صور الاختلاط‏:‏

اختلاط الرّجال بالنّساء

4 - يختلف حكم اختلاط الرّجال بالنّساء بحسب موافقته لقواعد الشّريعة أو عدم موافقته، فيحرم‏.‏ الاختلاط إذا كان فيه‏:‏

أ - الخلوة بالأجنبيّة، والنّظر بشهوة إليها‏.‏

ب - تبذّل المرأة وعدم احتشامها‏.‏

ج - عبث ولهو وملامسة للأبدان كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد، فالاختلاط الّذي يكون فيه مثل هذه الأمور حرام، لمخالفته لقواعد الشّريعة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ‏}‏‏.‏ وقال تعالى عن النّساء‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهنّ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏إذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب‏}‏‏.‏ ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يخلونّ رجل بامرأة فإنّ ثالثهما الشّيطان» «وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفّيه»‏.‏ كذلك اتّفق الفقهاء على حرمة لمس الأجنبيّة، إلاّ إذا كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بالمصافحة‏.‏ ويقول ابن فرحون‏:‏ في الأعراس الّتي يمتزج فيها الرّجال والنّساء، لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إذا كان فيه ما حرّمه الشّارع؛ لأنّ بحضورهنّ هذه المواضع تسقط عدالتهنّ‏.‏ ويستثنى من الاختلاط المحرّم ما يقوم به الطّبيب من نظر ولمس؛ لأنّ ذلك موضع ضرورة، والضّرورات تبيح المحظورات‏.‏

5 - ويجوز الاختلاط إذا كانت هناك حاجة مشروعة مع مراعاة قواعد الشّريعة ولذلك جاز خروج المرأة لصلاة الجماع وصلاة العيد، وأجاز البعض خروجها لفريضة الحجّ مع رفقة مأمونة من الرّجال‏.‏ كذلك يجوز للمرأة معاملة الرّجال ببيع أو شراء أو إجارة أو غير ذلك‏.‏ ولقد سئل الإمام مالك عن المرأة العزبة الكبيرة تلجأ إلى الرّجل، فيقوم لها بحوائجها، ويناولها الحاجة، هل ترى ذلك له حسناً‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به، وليدخل معه غيره أحبّ إليّ، ولو تركها النّاس لضاعت، قال ابن رشد‏:‏ هذا على ما قال إذا غضّ بصره عمّا لا يحلّ له النّظر إليه‏.‏

مواطن البحث

6 - الأشياء الّتي يتمّ فيها الاختلاط تشمل مواطن متعدّدةً في كثير من المسائل الفقهيّة ولكلّ مسألة حكمها بحسب أثر الاختلاط فيها ومن هذه المواطن‏:‏ اختلاط المغصوب بغيره في باب الغصب‏.‏ واختلاط موتى المسلمين بغيرهم في باب الجنائز‏.‏ واختلاط الحادث بالموجود في بيع الثّمار‏.‏ واختلاط الماشية الّتي تجب فيها الزّكاة في باب الزّكاة‏.‏ واختلاط المحلوف عليه في باب الإيمان‏.‏ واختلاط النّجس بالطّاهر في المائعات، وغير ذلك‏.‏ وفي الموضوع فروع متعدّدة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نظر - خلوة - محرم - أجنبيّ‏)‏‏.‏

اختلاف

التّعريف

1 - الاختلاف لغةً‏:‏ مصدر اختلف‏.‏ والاختلاف نقيض الاتّفاق‏.‏ جاء في اللّسان ما مفاده‏:‏ اختلف الأمران لم يتّفقا‏.‏ وكلّ ما لم يتساو فقد اختلف‏.‏ والخلاف‏:‏ المضادّة، وخالفه إلى الشّيء عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه‏.‏ ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللّغويّ وكذلك الخلاف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخلاف‏:‏

2 - جاء في فتح القدير والدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين، ونقله التّهانويّ عن بعض أصحاب الحواشي، التّفريق بين ‏(‏الاختلاف‏)‏ ‏(‏والخلاف‏)‏ بأنّ الأوّل يستعمل في قول بني على دليل، والثّاني فيما لا دليل عليه‏.‏ وأيّده التّهانويّ بأنّ القول المرجوح في مقابلة الرّاجح يقال له خلاف، لا اختلاف‏.‏ قال‏:‏ والحاصل منه ثبوت الضّعف في جانب المخالف في ‏(‏الخلاف‏)‏، كمخالفة الإجماع، وعدم ضعف جانبه في ‏(‏الاختلاف‏)‏‏.‏ وقد وقع في كلام بعض الأصوليّين والفقهاء عدم اعتبار هذا الفرق، بل يستعملون أحياناً اللّفظين بمعنًى واحد، فكلّ أمرين خالف أحدهما الآخر خلافاً، فقد اختلفا اختلافاً‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنّ الخلاف أعمّ مطلقاً من الاختلاف‏.‏ وينفرد الخلاف في مخالفة الإجماع ونحوه‏.‏ هذا ويستعمل الفقهاء ‏(‏التّنازع‏)‏ أحيانا بمعنى الاختلاف‏.‏

ب - الفرقة، والتّفرّق‏:‏

3 - ‏(‏الافتراق‏)‏ ‏(‏والتّفرّق‏)‏ ‏(‏والفرقة‏)‏ بمعنى أن يكون كلّ مجموعة من النّاس وحدهم‏.‏ ففي القاموس‏:‏ الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرّق عنها فتذهب تحت اللّيل عن جماعتها‏.‏ فهذه الألفاظ أخصّ من الاختلاف‏.‏

الاختلاف في الأمور الاجتهاديّة علم الخلاف

حقيقة الاختلاف وأنواعه‏:‏

4 - على المجتهد تحقيق موضع الاختلاف، فإنّ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ، كما أنّ نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصحّ فليس كلّ تعارض بين قولين يعتبر اختلافاً حقيقاً بينهما، فإنّ الاختلاف إمّا أن يكون اختلافاً في العبارة، أو اختلاف تنوّع، أو اختلاف تضادّ‏.‏ وهذا الأخير هو الاختلاف الحقيقيّ‏.‏

5 - أمّا الاختلاف في العبارة فأن يعبّر كلّ من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه‏.‏ مثال ذلك تفسير الصّراط المستقيم‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو القرآن، وقال بعضهم‏:‏ هو الإسلام‏.‏ فهذان القولان متّفقان، لأنّ دين الإسلام هو اتّباع القرآن الكريم‏.‏ وكذلك قول من قال‏:‏ هو السّنّة والجماعة‏.‏

6 - وأمّا اختلاف التّنويع، فأن يذكر كلّ من المختلفين من الاسم العامّ بعض أنواعه على سبيل التّمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحدّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه‏.‏ مثال ذلك تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ قال بعضهم‏:‏ السّابق الّذي يصلّي أوّل الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظّالم لنفسه الّذي يؤخّر العصر إلى الاصفرار‏.‏ وقيل‏:‏ السّابق المحسن بالصّدقة، والمقتصد بالبيع، والظّالم بأكل الرّبا‏.‏ واختلاف التّنوّع في الأحكام الشّرعيّة قد يكون في الوجوب تارةً وفي الاستحباب أخرى‏:‏ فالأوّل مثل أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصّدقة، وعلى قوم تعليم العلم‏.‏ وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثّل‏.‏ وفي فروض الكفايات، ولها تنوّع يخصّها، وهو أنّها تتعيّن على من لم يقم بها غيره‏:‏ فقد تتعيّن في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ وكذلك كلّ تنوّع في الواجبات يقع مثله في المستحبّات‏.‏

7 - وقد نظر الشّاطبيّ في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقيّ في عشرة أنواع‏.‏ منها‏:‏ ما تقدّم من الاختلاف في العبارة‏.‏ ومنها‏:‏ أن لا يتوارد الخلاف على محلّ واحد‏.‏ ومنها‏:‏ اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناءً على تغيّر الاجتهاد، والرّجوع عمّا أفتى به أوّلاً‏.‏ ومنها‏:‏ أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كلّ من العملين جائزاً، كاختلاف القرّاء في وجوه القراءات، فإنّهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحّته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإنّ المرويّات على الصّحّة لا خلاف فيها، إذ الكلّ متواتر‏.‏ وهذه الأنواع السّابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السّنّة، وكذلك في فتاوى الأئمّة وكلامهم في مسائل العلم‏.‏ وهي أنواع - وإن سمّيت خلافاً - إلاّ أنّها ترجع إلى الوفاق‏.‏ الحكم التّكليفيّ للاختلاف بحسب أنواعه‏:‏ أمور الدّين الّتي يمكن أن يقع فيها الخلاف إمّا أصول الدّين أو فروعه، وكلّ منهما إمّا أن يثبت بالأدلّة القاطعة أو لا‏.‏ فهي أربعة أنواع‏:‏

8 - النّوع الأوّل‏:‏ أصول الدّين الّتي تثبت بالأدلّة القاطعة، كوجود اللّه تعالى ووحدانيّته، وملائكته وكتبه ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والبعث بعد الموت ونحو ذلك‏.‏ فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحقّ فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر‏.‏

9 - النّوع الثّاني‏:‏ بعض مسائل أصول الدّين، مثل مسألة رؤية اللّه في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحّدين من النّار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشّافعيّ‏.‏ فمن أصحابه من حمله على ظاهره‏.‏ ومنهم من حمله على كفران النّعم‏.‏ وشرط عدم التّكفير أن يكون المخالف مصدّقاً بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتّكذيب المكفّر أن ينفي وجود ما أخبر به الرّسول ويزعم أنّ ما قاله كذب محض أراد به صرف النّاس عن شيء يريده، كذا قال الغزاليّ‏.‏

10 - النّوع الثّالث‏:‏ الفروع المعلومة من الدّين بالضّرورة كفرضيّة الصّلوات الخمس، وحرمة الزّنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف‏.‏ ومن خالف فيه فقد كفر‏.‏

11 - النّوع الرّابع‏:‏ الفروع الاجتهاديّة الّتي قد تخفى أدلّتها‏.‏ فهذه الخلاف فيها واقع في الأمّة‏.‏ ويعذر المخالف فيها؛ لخفاء الأدلّة أو تعارضها، أو الاختلاف في ثبوتها‏.‏ وهذا النّوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا‏:‏ في المسألة خلاف‏.‏ وهو موضوع هذا البحث على أنّه الخلاف المعتدّ به في الأمور الفقهيّة‏.‏ فأمّا إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطّلع عليه المجتهد فخالفه، فإنّه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدّليل الصّحيح الّذي تبيّن أنّه لم يطّلع عليه‏.‏ فهذا النّوع لا يصحّ اعتماده خلافاً في المسائل الشّرعيّة، لأنّه اجتهاد لم يصادف محلّاً، وإنّما يعدّ في مسائل الخلاف الأقوال الصّادرة عن أدلّة معتبرة في الشّريعة‏.‏ أدلّة جواز الاختلاف في المسائل الفرعيّة‏:‏

12 - أوّلاً‏:‏ ما وقع من الصّحابة في غزوة بني قريظة‏:‏ روى البخاريّ عن ابن عمر قال‏:‏ «قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ لا يصلّينّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطّريق‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ لا نصلّي حتّى نأتيها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل نصلّي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف واحداً منهم»‏.‏ ثانياً‏:‏ اتّفاق الصّحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كلّ فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والنّكاح والمواريث والعطاء والسّياسة وغير ذلك‏.‏

الاختلاف فيما لا فائدة فيه

13 - قال ابن تيميّة‏:‏ قد يقع الاختلاف في ألفاظ من تفسير القرآن ما لا مستند له من النّقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم أو بنقل لا يمكن تمييز الصّحيح منه من الضّعيف، ودون استدلال مستقيم‏.‏ وهذا النّوع من الاختلاف لا فائدة من البحث عنه، والكلام فيه من فضول الكلام‏.‏ وأمّا ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإنّ اللّه نصب على الحقّ فيه دليلاً‏.‏ فمثال ما لا فائدة فيه اختلافهم في أصحاب الكهف، وفي البعض الّذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونحو ذلك‏.‏ فهذه الأمور طريق العلم بها النّقل‏.‏ فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً، كاسم صاحب موسى أنّه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان ممّا ينقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلاّ بحجّة‏.‏

الاختلاف الجائز هل هو نوع من الوفاق

14 - يرى الشّاطبيّ أنّ ما يعتدّ به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق‏.‏ فإنّ الاختلاف في بعض المسائل الفقهيّة راجع إمّا إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإمّا إلى خفاء بعض الأدلّة، أو إلى عدم الاطّلاع على الدّليل‏.‏ وهذا الثّاني ليس في الحقيقة خلافاً، إذ لو فرضنا اطّلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي‏.‏ أمّا الأوّل فإنّ تردّده بين الطّرفين تحرّ لقصد الشّارع المبهم بينهما من كلّ واحد من المجتهدين، واتّباع للدّليل المرشد إلى تعرّف قصده‏.‏ وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكلّ واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه‏.‏ وسواء قلنا بالتّخطئة أو بالتّصويب، إذ لا يصحّ للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيباً أيضاً‏.‏ فالإصابة على قول المصوّبة إضافيّة‏.‏ فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار‏.‏ فهم في الحقيقة متّفقون لا مختلفون‏.‏ ومن هنا يظهر وجه التّحابّ والتّآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد؛ لأنّهم مجتمعون على طلب قصد الشّارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرّقوا فرقاً‏.‏ هذا وقد سلك الشّعرانيّ مسلكاً آخر في إرجاع مسائل الخلاف إلى الوفاق، بأن يحمل كلّ قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلّفين‏.‏ فمن قال من الأئمّة‏:‏ بأنّ الأمر في باب من أبواب العبادة للوجوب، وخالفه غيره فقال‏:‏ إنّه للنّدب، وكذلك اختلافهم في النّهي بأنّه للكراهة أو للتّحريم، فلكلّ من المرتبتين رجال، فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتّشديد الوارد في الشّريعة صريحاً أو ضمناً‏.‏ ومن ضعف منهم خوطب بالرّخصة‏.‏ فالمرتبتان عنده على التّرتيب الوجوبيّ لا التّخيير‏.‏

الاختلاف الفقهيّ هل هو رحمة

15 - المشهور أنّ اختلاف مجتهدي الأمّة في الفروع رحمة لها وسعة‏.‏ والّذين صرّحوا بذلك احتجّوا بما رواه ابن عبّاس مرفوعاً «مهما أوتيتم من كتاب اللّه فالعمل به لا عذر لأحد في تركه‏.‏ فإن لم يكن في كتاب اللّه فسنّة منّي ماضية‏.‏ فإن لم تكن سنّة منّي فما قال أصحابي‏.‏ إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة»‏.‏ وفي الحديث أيضاً «وجعل اختلاف أمّتي رحمةً وكان فيمن كان قبلنا عذاباً»‏.‏ واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التّابعين من مثل قول القاسم بن محمّد‏:‏ لقد نفع اللّه باختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنّه في سعة، ورأى أنّ خيراً منه قد عمله‏.‏ وعن عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما أحبّ أنّ أصحاب رسول اللّه لم يختلفوا؛ لأنّه لو كان قولاً واحداً كان النّاس في ضيق، وأنّهم أئمّة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة‏.‏ وعن يحيى بن سعيد أنّه قال‏:‏ اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلّل هذا ويحرّم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا‏.‏ وقال ابن عابدين‏:‏ الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف - من آثار الرّحمة فإنّ اختلافهم توسعة للنّاس‏.‏ قال‏:‏ فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرّحمة أوفر‏.‏ وهذه القاعدة ليست متّفقاً عليها، فقد روى ابن وهب عن مالك أنّه قال‏.‏ ليس في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سعة، وإنّما الحقّ في واحد‏.‏ وقال المزنيّ صاحب الشّافعيّ‏:‏ ذمّ اللّه الاختلاف وأمر بالرّجوع عنده إلى الكتاب والسّنّة‏.‏ وتوسّط ابن تيميّة بين الاتّجاهين، فرأى أنّ الاختلاف قد يكون رحمةً، وقد يكون عذاباً‏.‏ قال‏:‏ النّزاع في الأحكام قد يكون رحمةً إذا لم يفض إلى شرّ عظيم من خفاء الحكم‏.‏ والحقّ في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلّف - لما في ظهوره من الشّدّة عليه - من رحمة اللّه به، فيكون من باب ‏{‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏‏.‏ وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطّعام والثّياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كلّه حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم‏.‏ فخفاء العلم بما يوجب الشّدّة قد يكون رحمةً، كما أنّ خفاء العلم بما يوجب الرّخصة قد يكون عقوبةً، كما أنّ رفع الشّكّ قد يكون رحمةً وقد يكون عقوبةً‏.‏ والرّخصة رحمة‏.‏ وقد يكون مكروه النّفس أنفع كما في الجهاد‏.‏

أسباب اختلاف الفقهاء

16 - الاختلاف إمّا أن يكون ناشئاً عن هوًى، أو عن الاجتهاد المأذون فيه‏.‏ فأمّا ما كان ناشئاً عن هوًى فهو موضع الذّمّ، إذ أنّ الفقيه تابع لما تدلّ عليه الأدلّة الشّرعيّة فإن صرف الأدلّة إلى ما تهواه نفسه فقد جعل الأدلّة تابعةً لهواه‏.‏ وذكر الشّاطبيّ أنّ الخلاف النّاشئ عن الهوى هو الخلاف حقيقةً‏.‏ وإذا دخل الهوى أدّى إلى اتّباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظّهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدّى إلى الفرقة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتّفاقها‏.‏ فأقوال أهل الأهواء غير معتدّ بها في الخلاف المقرّر في الشّرع وإنّما يذكرها بعض النّاس ليردّوا عليها ويبيّنوا فسادها، كما فعلوا بأقوال اليهود والنّصارى ليوضّحوا ما فيها‏.‏

17 - أمّا النّوع الثّاني وهو الاختلاف النّاشئ عن الاجتهاد المأذون فيه فله أسباب مختلفة، يتعرّض لها الأصوليّون لماماً‏.‏ وقد أفردها بالتّأليف قديماً وحاول الوصول إلى حصر لها ابن السّيّد البطليوسيّ في كتابه ‏"‏ الإنصاف في أسباب الخلاف ‏"‏ وابن رشد في مقدّمة ‏"‏ بداية المجتهد ‏"‏ وابن حزم في ‏"‏ الإحكام ‏"‏ والدّهلويّ في ‏"‏ الإنصاف ‏"‏ وغيرهم‏.‏ ويرجع الاختلاف إمّا إلى الدّليل نفسه، وإمّا إلى القواعد الأصوليّة المتعلّقة به‏.‏

أسباب الخلاف الرّاجع إلى الدّليل

18 - ممّا ذكره ابن السّيّد من ذلك‏:‏

1 - الإجمال في الألفاظ واحتمالها للتّأويلات‏.‏

2 - دوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه‏.‏

3 - دورانه بين العموم والخصوص، نحو ‏{‏لا إكراه في الدّين‏}‏ اختلف فيه هل هو عامّ أو خاصّ بأهل الكتاب الّذين قبلوا الجزية‏.‏

4 - اختلاف القراءات بالنّسبة إلى القرآن العظيم، واختلاف الرّواية بالنّسبة إلى الحديث النّبويّ‏.‏

5 - دعوى النّسخ وعدمه‏.‏

6 - عدم اطّلاع الفقيه على الحديث الوارد أو نسيانه له‏.‏

أسباب الخلاف الرّاجع إلى القواعد الأصوليّة

19 - من العسر بمكان حصر الأسباب الّتي من هذا النّوع، فكلّ قاعدة أصوليّة مختلف فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنيّة عليها‏.‏

الإنكار والمراعاة في المسائل الخلافيّة

أوّلاً‏:‏ الإنكار في المسائل الخلافيّة‏:‏

20 - ذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قاعدة‏:‏ «لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجتمع عليه»‏.‏ وقال إنّه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه‏:‏ إحداها‏:‏ أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ‏.‏ ومن ثمّ وجب الحدّ على المرتهن بوطء الأمة المرهونة ولم ينظر للخلاف الشّاذّ في ذلك‏.‏ الثّانية‏:‏ أن يترافع فيه لحاكم، فيحكم بعقيدته‏.‏ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده‏.‏ الثّالثة‏:‏ أن يكون للمنكر فيه حقّ، كالزّوج المسلم يمنع زوجته الذّمّيّة من شرب الخمر بالرّغم من وجود خلاف في حقّه بمنعها وعدمه‏.‏ وذكر ابن تيميّة أنّ للمجتهد أن يعتقد في الأمور المختلف فيها بين الحلّ والتّحريم أنّ مخالفه قد ارتكب ‏(‏الحرام‏)‏ في نحو ‏(‏لعن اللّه المحلّل والمحلّل له‏)‏ ولكن لا يلحقه الوعيد واللّعن إن كان قد اجتهد الاجتهاد المأذون فيه‏.‏ بل هو معذور مثاب على اجتهاده‏.‏ وكذلك من قلّده التّقليد السّائغ‏.‏

ثانياً‏:‏ مراعاة الخلاف‏:‏

21 - يراد بمراعاة الخلاف أنّ من يعتقد جواز الشّيء يترك فعله إن كان غيره يعتقده حراماً‏.‏ كذلك في جانب الوجوب يستحبّ لمن رأى إباحة الشّيء أن يفعله إن كان من الأئمّة من يرى وجوبه‏.‏ كمن يعتقد عدم وجوب الوتر يستحبّ له المحافظة على عدم تركه، خروجاً من خلاف من أوجبه‏.‏ ولا يتأتّى ممّن اعتقد الوجوب مراعاة قول من يرى التّحريم، ولا ممّن اعتقد التّحريم مراعاة قول من يرى الوجوب‏.‏ حكم مراعاة الخلاف‏:‏

22 - ذكر السّيوطيّ من الشّافعيّة أنّ الخروج من الخلاف مستحبّ‏.‏

شروط الخروج من الخلاف‏:‏

23 - قال السّيوطيّ‏:‏ لمراعاة الخلاف شروط‏:‏ أحدها‏:‏ أن لا توقع مراعاته في خلاف آخر‏.‏ الثّاني‏:‏ أن لا يخالف سنّةً ثابتةً ومن ثمّ سنّ رفع اليدين في الصّلاة‏.‏ ولم يبال بقول من قال بإبطاله الصّلاة من الحنفيّة؛ لأنّه ثابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية خمسين صحابيّاً‏.‏ الثّالث‏:‏ أن يقوى مدركه - أي دليله - بحيث لا يعدّ هفوةً‏.‏ ومن ثمّ كان الصّوم في السّفر أفضل لمن قوي عليه، ولم يبال بقول داود‏:‏ إنّه لا يصحّ‏.‏ وقال ابن حجر في هذا الشّرط الثّالث‏:‏ أن يقوى مدركه بأن يقف الذّهن عنده، لا بأن تنهض حجّته‏.‏

أمثلة على الخروج من الخلاف‏:‏

24 - جمع السّيوطيّ لذلك أمثلةً من فقه الشّافعيّة منها‏:‏

1 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالوجوب‏:‏ استحباب الدّلك في الطّهارة، واستيعاب الرّأس بالمسح، والتّرتيب في قضاء الفوائت، وترك الأداء خلف من يصلّي القضاء، وترك القصر فيما دون ثلاث مراحل، وترك الجمع، وقطع المتيمّم الصّلاة إذا رأى الماء‏.‏

2 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالتّحريم‏:‏ كراهة الحيل في باب الرّبا، وكراهة نكاح المحلّل، وكراهة مفارقة الإمام بلا عذر، وكراهة صلاة المنفرد خلف الصّفّ‏.‏ وذكر ابن عابدين من الحنفيّة أمثلةً منها‏:‏ ندب الوضوء للخروج من خلاف العلماء، كما في مسّ الذّكر أو المرأة‏.‏ وذكر صاحب المغني من الحنابلة‏:‏ استحباب السّجود على الأنف خروجاً من خلاف من أوجبه‏.‏ وذكر الشّيخ عليش من المالكيّة‏:‏ أنّه لا تكره البسملة في الفرض إذا قصد بها الخروج من خلاف من أوجبها‏.‏

مراعاة الخلاف فيما بعد وقوع المختلف فيه‏:‏

25 - ذكر الشّاطبيّ نوعاً آخر من مراعاة الخلاف‏.‏ وذلك فيما لو ارتكب المكلّف فعلاً مختلفاً في تحريمه وجوازه، فقد ينظر المجتهد الّذي يرى تحريم هذا الفعل، فيجيز ما وقع من الفساد ‏"‏ على وجه يليق بالعدل، نظراً إلى أنّ ذلك الفعل وافق فيه المكلّف دليلاً على الجملة، وإن كان مرجوحاً، فهو راجح بالنّسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأنّ ذلك أولى من إزالتها، مع دخول ضرر على الفاعل أشدّ من مقتضى النّهي»‏.‏ وضرب مثلاً لذلك بالنّكاح بلا وليّ‏.‏ ففي الحديث‏:‏ «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل باطل باطل»‏.‏ فلو تزوّج رجل امرأةً بلا وليّ، فإنّ هذا النّكاح يثبت به الميراث، ويثبت به نسب الأولاد، ولا يعامل معاملة الزّنا لثبوت الخلاف فيه، وثبوت الميراث والنّسب تصحيح للمنهيّ عنه من وجه، ‏"‏ وإجراؤهم النّكاح الفاسد مجرى الصّحيح في هذه الأحكام، وفي حرمة المصاهرة، وغير ذلك دليل على الحكم بصحّته على الجملة، وإلاّ لكان في حكم الزّنا‏.‏ وليس في حكمه بالاتّفاق»‏.‏ وقد وجّهه بأنّ ‏"‏ العامل بالجهل مخطئاً له نظران‏:‏ نظر من جهة مخالفته للأمر والنّهي‏.‏ وهذا يقتضي الإبطال، ونظر من جهة قصده الموافقة في الجملة؛ لأنّه داخل مداخل أهل الإسلام، ومحكوم له بأحكامهم، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحّح ما أفسده بجهله أو خطئه‏.‏‏.‏‏.‏ إلاّ أن يترجّح جانب الإبطال بالأمر الواضح»‏.‏

العمل في المسائل الخلافيّة المقلّد بين التّخيّر والتّحرّي‏:‏

26 - ذهب بعض الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العامّيّ إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فهو مخيّر يأخذ بأيّها شاء قال الشّوكانيّ‏:‏ واستدلّوا بإجماع الصّحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هو على التّخيير، بل لا بدّ من مرجّح‏.‏ وبه قال الحنفيّة والمالكيّة وأكثر الشّافعيّة وأحمد في رواية وكثير من الفقهاء‏.‏ ثمّ قد قيل‏:‏ يأخذ بالأغلظ، وقيل‏:‏ بالأخفّ، وقيل‏:‏ بقول الأعلم‏.‏ وقال الغزاليّ‏:‏ يأخذ بقول أفضلهم عنده وأغلبهم صواباً في قلبه‏.‏ وقد أيّد الشّاطبيّ القول الثّاني من أنّ المقلّد ليس على التّخيير‏.‏ قال‏:‏ ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف؛ لأنّ كلّ واحد من المفتين متّبع لدليل عنده يقتضي ضدّ ما يقتضيه دليل صاحبه‏.‏ فهما صاحبا دليلين متضادّين‏.‏ فاتّباع أحدهما بالهوى اتّباع للهوى‏.‏ فليس إلاّ التّرجيح بالأعلميّة ونحوها‏.‏ فكما يجب على المجتهد التّرجيح، أو التّوقّف، فكذلك المقلّد‏.‏ وأيضاً فإنّ ذلك يؤدّي إلى تتبّع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعيّ‏.‏

ما يصنع القاضي والمفتي في المسائل الخلافيّة‏:‏

27 - يجب عند الشّافعيّة والحنابلة وهو قول للمالكيّة أن يكون القاضي مجتهداً‏.‏ وقد صرّح صاحب المغني من الحنابلة أنّ القاضي لا يحكم بتقليد غيره مطلقاً سواء أظهر له الحقّ فخالفه فيه غيره، أم لم يظهر له شيء، وسواء أضاق الوقت أم لم يضق‏.‏ وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتّقليد‏.‏ وعند الشّافعيّة إن تعذّر هذا الشّرط فولّى سلطان أو من له شوكة مقلّداً نفذ قضاؤه للضّرورة‏.‏ والمعتمد عند المالكيّة جواز كون القاضي مقلّداً‏.‏ والاجتهاد عند الحنفيّة شرط أولويّة فقط‏.‏ فعلى قول من اشترط الاجتهاد، فإنّ القاضي في المسائل المختلف فيها ممّا ليس فيه نصّ ولا إجماع لا يحكم إلاّ بما ترجّح عنده حسب أصول الاجتهاد‏.‏ وعلى قول من يجيز كون القاضي مقلّداً، ذهب المالكيّة إلى أنّه يحكم المقلّد بقول مقلّده أي بالرّاجح من مذهبه سواء أكان قوله - يعني إمام المذهب - أم قول أصحابه، لا بالضّعيف، ولا بقول غيره من المذاهب، وإلاّ نقض حكمه، إلاّ أن يكون للضّعيف مدرك ترجّح عنده وكان من أهل التّرجيح، وكذلك المفتي‏.‏ ويجوز للإنسان أن يعمل بالضّعيف لأمر اقتضى ذلك عنده‏.‏ وقيل‏:‏ بل يقلّد قول الغير إذا كان راجحاً في مذهب ذلك الغير، قال الصّاويّ‏:‏ وهو المعتمد لجواز التّقليد ولو لم تكن ضرورة‏.‏ أمّا الحنفيّة فلهم في المسائل الخلافيّة تفصيل‏:‏ ففي الفتاوى الهنديّة‏:‏ يحكم القاضي بما في كتاب اللّه، فإن لم يجد فبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فبما ورد عن الصّحابة، فإن اختلفت أقوالهم يجتهد في ذلك‏.‏ فيرجّح قول بعضهم على بعض باجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، وليس له أن يخالفهم جميعاً‏.‏ وإن اجتمعوا على قول واحد، وخالفهم واحد من التّابعين لا يعتبر خلافه إلاّ إن كان ممّن أدرك عهدهم وزاحمهم في الفتيا كشريح والشّعبيّ‏.‏ فإن لم يأت عن الصّحابة شيء فبإجماع التّابعين‏.‏ فإن كان بينهم خلاف رجح قول بعضهم على بعض فقضى به‏.‏ فإن لم يجئ عنهم شيء اجتهد إن كان من أهل الاجتهاد‏.‏ وإذا اختلف أبو حنيفة وأصحابه، قال ابن المبارك‏:‏ يأخذ بقول أبي حنيفة لأنّه كان من التّابعين‏.‏ ولو اختلف المتأخّرون فيه يختار واحداً من ذلك‏.‏ ولو أنّ قاضياً استفتي في حادثة وأفتى، ورأيه بخلاف رأي المفتي، فإنّه يعمل برأي نفسه إن كان من أهل الرّأي‏.‏ فإن ترك رأيه وقضى برأي المفتي لم يجز عند أبي يوسف ومحمّد‏.‏ أمّا عند أبي حنيفة فإنّه ينفذ لمصادفته فصلاً مجتهداً فيه‏.‏ أمّا إن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل الأصحاب، وحفظها على الإحكام والإتقان، عمل بقول من يعتقد قوله حقّاً على التّقليد‏.‏

ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم‏:‏

28 - إذا حكم القاضي في واقعة من الوقائع بحكم مختلف فيه ممّا يسوغ فيه الخلاف لعدم مخالفته لنصّ أو إجماع، فإنّ النّزاع يرتفع بالحكم فيما يختصّ بتلك الواقعة، ويعود الحكم في تلك الواقعة كالمجمع عليه، فليس لأحد نقضه حتّى ولا القاضي الّذي قضى به نفسه‏.‏ كما لو حكم بلزوم الوقف‏.‏ أمّا في غير تلك الواقعة فإنّ الخلاف لا يرتفع بالقضاء، وهذه إحدى القواعد الفقهيّة المشهورة، وتعنون عادةً بعنوان ‏(‏الاجتهاد لا ينقض بمثله‏)‏ وعلّتها أنّه يؤدّي إلى أن لا يستقرّ حكم، وفيه مشقّة شديدة، فلو نقض لنقض النّقض أيضاً‏.‏ ولأنّه ليس الثّاني بأقوى من الأوّل‏.‏ وقد ترجّح الأوّل باتّصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه‏.‏ وهذه المسألة إجماعيّة‏.‏ وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل، وخالفه فيها بعده عمر رضي الله عنه ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة، ثمّ حكم في واقعة أخرى بالمشاركة، وقال‏:‏ تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي‏.‏ ومن هذه القضيّة يتبيّن أنّ القاضي لا ينقض الماضي، وأمّا في المستقبل فيجوز أن يحكم فيه بما يخالف ما مضى‏.‏ ومن شرط نفاذ الحكم في المسائل الخلافيّة أن يكون في حادثة ودعوى صحيحة وإلاّ كان فتوى لا حكماً‏.‏

ارتفاع الخلاف بتصرّف الإمام أو نائبه‏:‏

29 - إذا تصرّف الإمام أو نائبه بما تختلف فيه الاجتهادات طبقاً لأحد الأقوال المعتبرة، فلا ينقض ما فعله كذلك، ويصير كالمتّفق عليه ‏(‏أي بالنّسبة لما مضى‏.‏ وأمّا في المستقبل فله أن يتصرّف تصرّفاً مغايراً إذا تغيّر وجه المصلحة في رأيه‏)‏‏.‏ وقد قرّر أبو بكر رضي الله عنه العطاء بالسّويّة، ولمّا جاء عمر رضي الله عنه فاضل بين النّاس بحسب سابقتهم وقربهم من النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذكر الفقهاء أنّ للإمام أن ينقض حمى من قبله من الأئمّة؛ لأنّه يتبع المصلحة، والمصلحة قد تتغيّر‏.‏ قال ابن نجيم‏:‏ «إذا رأى الإمام شيئاً ثمّ مات أو عزل فللثّاني تغييره حيث كان من الأمور العامّة‏.‏ ويستثنى هذا من قاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأنّ هذا حكم يدور مع المصلحة، فإذا رآها الثّاني وجب اتّباعها»‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد الّتي شاع فيها النّزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم أو غيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوّابه من ذلك‏.‏ ومع هذا يذكر ابن تيميّة أنّ الواحد من العلماء والأمراء ليس معصوماً، ولهذا يسوغ لنا أن نبيّن الحقّ الّذي يجب اتّباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء‏.‏

الصّلاة خلف المخالف في أحكامها‏:‏

30 - ورد عن الأئمّة ما يدلّ على أنّ المصلّي يأتمّ بمن يخالف اجتهاده في أحكام الصّلاة، ولو كان يرى أنّ مثل ذلك مفسد للصّلاة، أو غيره أولى منه‏.‏ لأنّه لمّا كان الإمام مجتهداً اجتهاداً سائغاً، أو مقلّداً تقليداً سائغاً، فإنّ الانفراد عنه نوع من الفرقة، واختلاف الظّواهر تؤدّي إلى اختلاف البواطن‏.‏ وممّا ورد من ذلك‏:‏ أ - كان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج الدّم‏.‏ ورأى أبو يوسف هارون الرّشيد احتجم ولم يتوضّأ - أفتاه مالك بذلك - فصلّى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصّلاة‏.‏

ب - الشّافعيّ رضي الله عنه ترك القنوت في الصّبح لمّا صلّى مع جماعة من الحنفيّة في مسجدهم بضواحي بغداد‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ فعل ذلك أدباً مع الإمام، وقال الشّافعيّة بل تغيّر اجتهاده في ذلك الوقت‏.‏

ج - كان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والفصد‏.‏ فسئل عمّن رأى الإمام قد احتجم ثمّ قام إلى الصّلاة ولم يتوضّأ أيصلّي خلفه‏؟‏ فقال‏:‏ كيف لا أصلّي خلف مالك وسعيد بن المسيّب‏؟‏ إلاّ أنّ بعض المتأخّرين الفقهاء مالوا إلى التّشدّد في ذلك‏.‏

مراعاة الإمام للمصلّين خلفه إن كانوا يخالفونه في أحكام الصّلاة‏:‏

31 - تقدّم ذكر مراعاة الخلاف وشروطها، وأنّها مستحبّة‏.‏ ومراعاة إمام الصّلاة أن يأتي بما يعتقده المأموم شرطاً أو ركناً أو واجباً، ولو لم يعتقده الإمام كذلك‏.‏ وكذلك فيما يعتقده المأموم من سنّة الصّلاة‏.‏ ولا تتأتّى المراعاة، على ما صرّح به بعض الحنفيّة، فيما هو سنّة عند المأموم ومكروه عند الإمام، كرفع اليدين في الانتقالات، وجهر البسملة‏.‏ فهذا وأمثاله لا يمكن الخروج فيه من عهدة الخلاف ‏"‏ فكلّهم يتبع مذهبه ‏"‏ ولكن قال ابن تيميّة‏:‏ «إن كان الخلاف في الأفضل فقد استحبّ الأئمّة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف للمأمومين‏.‏ فإذا لم يمكنه نقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقتهم أرجح»‏.‏

الاختلاف بين المتعاقدين‏:‏

32 - قد يتنازع شخصان في إثبات حقّ من الحقوق للّه تعالى، أو لأحدهما قبل الآخر، ناشئ عن عقد من العقود، كالبيع أو الإجارة أو النّكاح، أو في فسخ من الفسوخ، كالإقالة والطّلاق، أو غير ذلك من التّصرّفات‏.‏ والطّريق إلى رفع ذلك الاختلاف الادّعاء به لدى القضاء ليفصل في شأنه، ويحكم بأداء الحقّ لصاحبه، بالطّريقة الصّحيحة شرعاً‏.‏ وكلّ نوع من أنواع التّصرّفات تقع فيه اختلافات تخصّه‏.‏ ويذكر الفقهاء هذه الاختلافات، وطريق الحكم في كلّ منها، في أثناء عرضهم للعقد أو الفسخ‏.‏ وتذكر القاعدة العامّة لذلك في باب ‏(‏الدّعوى‏)‏‏.‏

اختلاف الشّهود‏:‏

33 - إذا اختلف شاهدا البيع أو شهود الزّنا أو نحو ذلك فإنّ اختلافهم يمنع من كمال الشّهادة، والحكم بموجبها، في بعض الأحوال‏.‏ وفي ذلك اختلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

اختلاف الحديث وسائر الأدلّة‏:‏

34 - إذا اختلفت الأدلّة وجب الجمع بينها إن أمكن، وإلاّ يرجّح بينها، فإن لم يمكن التّرجيح يعتبر المتأخّر منهما ناسخاً للمتقدّم، وينظر ذلك في باب التّرجيح بين الأدلّة من الملحق الأصوليّ‏.‏

اختلاف الدّار

التّعريف

1 - الدّار لغةً‏:‏ المحلّ‏.‏ وتجمع العرصة والبناء، وتطلق أيضاً على البلدة‏.‏ واختلاف الدّارين عند الفقهاء بمعنى اختلاف الدّولتين اللّتين ينتسب إليهما الشّخصان‏.‏ فإن كان اختلاف الدّارين بين مسلمين لم يؤثّر ذلك شيئاً؛ لأنّ ديار الإسلام كلّها دار واحدة‏.‏ قال السّرخسيّ‏:‏ «أهل العدل مع أهل العدل يتوارثون فيما بينهم؛ لأنّ دار الإسلام دار أحكام، فباختلاف المنعة والملك لا تتباين الدّار فيما بين المسلمين؛ لأنّ حكم الإسلام يجمعهم»‏.‏ وهذا الّذي قاله السّرخسيّ في حقّ المسلمين لم ينقل فيه خلاف، إلاّ ما قال العتّابيّ‏:‏ إنّ من أسلم ولم يهاجر إلينا لا يرث من المسلم الأصليّ سواء كان في دارنا، أو كان مستأمناً بدار الحرب‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ وقول العتّابيّ مدفوع بأنّ هذا كان في ابتداء الإسلام حين كانت الهجرة فريضةً‏.‏ فقد نفى اللّه تعالى الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال‏:‏ ‏{‏والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا‏}‏، فلمّا كانت الولاية بينهما منتفيةً كان الميراث منتفياً؛ لأنّ الميراث على الولاية‏.‏ فأمّا اليوم فإنّ حكم الهجرة قد نسخ‏.‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح»‏.‏ قال السّرخسيّ‏:‏ «فأمّا دار الحرب فليست بدار أحكام، ولكن دار قهر‏.‏ فباختلاف المنعة والملك تختلف الدّار فيما بينهم، وبتباين الدّار ينقطع التّوارث‏.‏ وكذلك إذا خرجوا إلينا بأمان، لأنّهم من دار الحرب وإن كانوا مستأمنين فينا، فيجعل كلّ واحد في الحكم كأنّه في منعة ملكه الّذي خرج منه بأمان»‏.‏ أمّا أهل الذّمّة فإنّهم من أهل دار الإسلام، ولذا فهم مخالفون في الدّار لأهل الحرب‏.‏ أمّا الحربيّون فيما بينهم فإنّ دورهم قد تتّفق وقد تختلف‏.‏ قال ابن عابدين شارحاً معنى اختلاف الدّارين‏:‏ «اختلافهما باختلاف المنعة أي العسكر، واختلاف الملك، كأن يكون أحد الملكين في الهند، وله دار ومنعة، والآخر في التّرك، وله دار ومنعة أخرى، وانقطعت العصمة بينهم حتّى يستحلّ كلّ منهم قتال الآخر‏.‏ فهاتان الدّاران مختلفتان، فتنقطع باختلافهما الوراثة؛ لأنّها تنبني على العصمة والولاية‏.‏ أمّا إن كان بينهما تناصر وتعاون على أعدائهما كانت الدّار والوراثة ثابتةً»‏:‏ ‏(‏وانظر‏:‏ دار الإسلام ودار الكفر‏)‏‏.‏ ودار الإسلام مخالف لدار الحرب ولو كان بينهما تناصر وتعاون‏.‏

أنواع اختلاف الدّارين

2 - عند الحنفيّة‏:‏ قد تختلف الدّاران حقيقةً فقط، أو حكماً فقط، أو حقيقةً وحكماً‏:‏ فاختلافهما حقيقةً فقط، كمستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم، فإنّ الدّار وإن اختلفت حقيقةً لكن المستأمن من أهل الحرب حكماً‏.‏ فهما متّحدان حكماً‏.‏ وأمّا اختلافهما حكماً فكمستأمن وذمّيّ في دارنا، فإنّهما وإن كانا في دار واحدة حقيقةً إلاّ أنّهما في دارين حكماً؛ لأنّ المستأمن من أهل الحرب حكماً، لتمكّنه من الرّجوع إلى دار الحرب‏.‏ وأمّا اختلافهما حقيقةً وحكماً فكالحربيّ في دارهم والذّمّيّ في دارنا‏.‏ وكالحربيّين في دارين مختلفتين‏.‏ هذا وإنّ اختلاف الدّارين بين كافر وكافر يستتبع في الفقه الإسلاميّ أحكاماً مختلفةً نعرض جملةً منها فيما يلي‏:‏ التّوارث‏:‏

3 - اختلاف الدّارين حكماً فقط، أو حكماً وحقيقةً، أحد موانع التّوارث عند الحنفيّة، فلا يرث الذّمّيّ حربيّاً ولا مستأمناً، ولا الحربيّ والمستأمن ذمّيّاً ولو اتّفق دينهما، ولا يرث الحربيّ حربيّاً إن اختلفت داراهما‏.‏ ويثبت التّوارث بين مستأمنين في دارنا إن كانا من دار واحدة، كما يثبت بين مستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم لاتّحاد الدّار بينهما حكماً‏.‏ ومذهب الشّافعيّة قريب من مذهب الحنفيّة، فلا توارث عندهم بين ذمّيّ وحربيّ، أمّا المستأمن والمعاهد فهما على الأصحّ عند الشّافعيّ في حكم أهل الذّمّة، للقرب بينهم ولعصمتهم بالعهد والأمان، كالذّمّيّ، فيرثان الذّمّيّ ويرثهما، ولا توارث بين أحدهما وبين الحربيّين‏.‏ وفي قول آخر‏:‏ المستأمن والمعاهد كالحربيّ‏.‏ أمّا مذهب الحنابلة، ومثله مذهب المالكيّة - فيما نقله صاحب العذب الفائض ولم نجدهم صرّحوا به فيما اطّلعت عليه من كلامهم - فلا يمنع اختلاف الدّارين التّوارث ما دامت الملل متّفقةً‏.‏ وعند الحنابلة قول آخر هو للقاضي أبي يعلى‏:‏ إنّ الحربيّ لا يرث ذمّيّاً، ولا الذّمّيّ حربيّاً، فأمّا المستأمن فيرثه أهل دار الحرب وأهل دار الإسلام، ويرث أهل الحرب بعضهم بعضاً سواء اتّفقت ديارهم أو اختلفت‏.‏

دين الولد

4 - بيان من يتبعه الولد في دينه يذكر في موضع آخر ‏(‏ر‏:‏ اختلاف الدّين‏)‏، وقد اشترط الحنفيّة في تبعيّة الولد لخير والديه في الدّين أن تتّحد الدّار بين التّابع والمتبوع، وإلاّ فلا تبعيّة‏.‏ فلو كان الولد في دار الحرب، ووالده في دار الإسلام، فأسلم الوالد، لا يتبعه الولد، ولا يكون مسلماً؛ لأنّه لا يمكن جعل الوالد من أهل دار الحرب، بخلاف ما إذا كان الوالد في دار الحرب فأسلم، وولده في دار الإسلام، فإنّه يتبعه؛ لأنّ الوالد المسلم من أهل دار الإسلام حكماً‏.‏

الفرقة بين الزّوجين

5 - يرى المالكيّة والشّافعيّ والحنابلة أنّ الفرقة لا تقع بين الزّوجين لمجرّد اختلافهما داراً‏.‏ ويرى الحنفيّة أنّ اختلاف داري الزّوجين حقيقةً وحكماً موجب للفرقة بينهما‏.‏ فلو تزوّج حربيّ حربيّةً ثمّ دخل أحدهما دار الإسلام فأسلم أو عقد الذّمّة، وترك زوجه الآخر في دار الحرب، انفسخ نكاحه لاختلاف الدّارين حقيقةً وحكماً‏.‏ بخلاف ما لو دخل أحدهما مستأمناً فإنّ نكاحه لا ينفسخ‏.‏ ولو تزوّج مسلم حربيّةً في دار الحرب ثمّ خرج عنها وحده بانت‏.‏ ويقتضي مذهب أبي حنيفة - كما قال ابن قدامة - أنّ أحد الزّوجين الذّمّيّين إذا دخل دار الحرب ناقضاً للعهد، وترك زوجه الآخر في دار الإسلام، ينفسخ نكاحهما؛ لأنّ الدّارين اختلفتا بهما فعلاً وحكماً، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كما لو أسلمت في دار الإسلام قبل الدّخول‏.‏ واحتجّ الحنفيّة بأنّه مع تباين الدّارين حقيقةً وحكماً لا تنتظم المصالح، والنّكاح شرع لمصالحه لا لعينه، فلا يبقى عند عدمها، كالمحرميّة إذا اعترضت عليه‏.‏ وهذا لأنّ أهل الحرب كالموتى - أي بالنّسبة إلى أهل دار الإسلام - فلا يشرع النّكاح بين الحيّ والميّت‏.‏ واحتجّ الجمهور بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على زوجها بالنّكاح الأوّل، وكانت قد أسلمت قبله بسنتين، وقيل بستّ سنين، وهاجرت وبقي هو بمكّة‏.‏ وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة عام الفتح، وفرّا هما وغيرهما دون أن يسلموا، ثمّ أسلموا فأقرّوا على أنكحتهم‏.‏

النّفقة

6 - لا يمنع اختلاف الدّار وجوب نفقة الزّوجة عند أحد ممّن أثبت النّكاح مع اختلاف الدّارين‏.‏ أمّا نفقة الأقارب فعند الحنفيّة يمنع اختلاف الدّارين وجوب نفقة القرابة على الأصول والفروع والحواشي‏.‏ قال الزّيلعيّ‏:‏ لا يجب على المسلم نفقة أبويه الحربيّين، ولا يجبر الحربيّ على نفقة أبيه المسلم أو الذّمّيّ؛ لأنّ الاستحقاق بطريق الصّلة، ولا تستحقّ الصّلة للحربيّ أو الذّمّيّ للنّهي عن برّهم‏.‏ وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ لا يجبر أحدهما على النّفقة ولو كان الحربيّ مستأمناً بدار الإسلام‏.‏ وصرّح بعضهم بأن لا نفقة بين الحربيّ الّذي أسلم بدار الحرب ولم يهاجر، وبين قريبه المسلم بدار الإسلام؛ لاختلاف الدّارين‏.‏ وهذا الّذي نقلناه من مذهب الحنفيّة خالف في بعضه صاحب البدائع، فرأى أنّ نفقة الأصول والفروع خاصّةً لا يمنع وجوبها اختلاف الدّارين‏.‏ قال‏:‏ لأنّ وجوب نفقة غير الأصول والفروع بطريق الصّلة، ولا تجب الصّلة مع اختلاف الدّارين، وتجب في قرابة الولادة؛ ولأنّ وجوب النّفقة هناك بحقّ الوراثة، ولا وراثة - أي عندهم - مع اختلاف الدّارين، والوجوب في قرابة الولادة بحقّ الولادة، وهو لا يختلف‏.‏ والظّاهر أنّ مذهب الشّافعيّة وجوب النّفقة بين الذّمّيّ والمستأمن في قرابة الأصول والفروع، وكذا بين المسلم والمستأمن‏.‏ أمّا الحربيّ غير المستأمن فلا تجب النّفقة بينه وبين قريبه المسلم أو الذّمّيّ لعدم عصمته‏.‏ وأمّا قرابة ما عدا الأصول والفروع فلا يجب بها نفقة عند الشّافعيّة أصلاً‏.‏ وظاهر مذهب الحنابلة أنّ اختلاف الدّار لا يمنع وجوب نفقة الأقارب إذا تحقّقت شروطها‏.‏ ولم يتّضح لنا قول المالكيّة في هذه المسألة‏.‏

الوصيّة

7 - اختلف الفقهاء في وصيّة المسلم أو الذّمّيّ للحربيّ، فرأى الحنابلة جوازها مطلقاً‏.‏ وللشّافعيّة قولان أصحّهما الصّحّة‏.‏ وهي المذهب‏.‏ وللمالكيّة قولان، وعدم الصّحّة هو المعتمد‏.‏ ومنعها الحنفيّة إذا كان الموصي في دار الإسلام والموصى له حربيّ في دار الحرب‏.‏ فإن كان الموصي والموصى له في دار الحرب فقد اختلف قول الحنفيّة في ذلك‏.‏ ووجهة من منع الوصيّة لهم أنّ التّبرّع لهم بتمليكهم المال إعانة لهم على حرب المسلمين‏.‏ وأيضاً نحن قد أمرنا بقتل الحربيّ وأخذ ماله، فلا معنى للوصيّة له‏.‏ ومن أجل هذا صرّح الحنفيّة بعدم جواز هذه الوصيّة ولو أجازها الورثة، ولو جاء الحربيّ لدار الإسلام لأخذ وصيّته لم يكن له ذلك‏.‏ والّذين أجازوها نظروا إلى أنّ الوصيّة تمليك، ولا يمتنع التّمليك للحربيّ، قياساً له على البيع‏.‏ أمّا الحربيّ المستأمن في دار الإسلام، لو أوصى له مسلم أو ذمّيّ صحّت الوصيّة له على ظاهر الرّواية عند الحنفيّة‏.‏ وروي أنّها لا تجوز؛ لأنّ المستأمن على قصد الرّجوع، ويمكّن منه، ولا يمكّن من زيادة المقام على السّنة إلاّ بجزية‏.‏ ولو أوصى المستأمن لمسلم أو ذمّيّ فقد صرّح الحنفيّة بجوازه - وهو ما يقتضيه كلام غيرهم - لأنّ المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام‏.‏ ويقول الحنفيّة‏:‏ إنّ المستأمن لو أوصى لمسلم أو ذمّيّ بكلّ ماله، ولم يكن معه من ورثته بدار الإسلام أحد جاز، ولا عبرة بورثته الّذين في دار الحرب؛ لأنّهم أموات في حقّنا؛ ولأنّه لا عصمة لأنفسهم ولا لأموالهم، فلأن لا يكون لحقّهم الّذي في مال مورّثهم عصمة أولى‏.‏ فإن كان أحد من ورثته معه وقف الجواز على إجازتهم‏.‏

القصاص

8 - إذا قتل الذّمّيّ مستأمناً وجب عليه القصاص وكذلك إذا قتل المستأمن ذمّيّاً‏.‏ وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة، إلاّ أنّ الحنفيّة استثنوا حالة كون القاتل ذمّيّاً والمقتول مستأمناً، فلا قصاص عندهم، قال صاحب البدائع‏:‏ لأنّ عصمة المستأمن لم تثبت مطلقاً، بل موقوتة إلى غاية مقامه بدار الإسلام؛ لأنّ المستأمن من أهل دار الحرب وإنّما دخل دار الإسلام لا بقصد الإقامة بل لحاجة يقضيها ثمّ يعود إلى وطنه‏.‏ فكان في عصمته شبهة الإباحة‏.‏ وروي عن أبي يوسف أنّه قال‏:‏ يقتل به قصاصاً لقيام العصمة وقت القتل‏.‏ ولا يقتل الذّمّيّ بالحربيّ اتّفاقاً؛ لأنّه لا عصمة له أصلاً، ولا خلاف في ذلك، كما في المغني‏.‏ ولم يصرّحوا بحكم المستأمن إذا قتل حربيّاً، والظّاهر أنّه لا يقتل به؛ لأنّ الحربيّ لا عصمة له أصلاً‏.‏

العقل حمل الدّية

9 - عند الشّافعيّة‏:‏ يعقل الذّمّيّ اليهوديّ أو المعاهد أو المستأمن عن النّصرانيّ المعاهد أو المستأمن، وبالعكس، في الأظهر عندهم‏.‏ أمّا الحربيّ فلا يعقل عن نحو ذمّيّ، وعكسه؛ لانقطاع النّصرة بينهما؛ لاختلاف الدّار‏.‏ والمقدّم عند الحنابلة أنّ الذّمّيّ لا يعقل عن الحربيّ، كما لا يعقل الحربيّ عن الذّمّيّ‏.‏ والقول الآخر‏:‏ إن توارثا تعاقلا وإلاّ فلا‏.‏ والظّاهر أنّ الحربيّ في كلامهم هذا شامل للمستأمن‏.‏ ولم نجد في كلام كلّ من الحنفيّة والمالكيّة تعرّضاً لهذه المسألة‏.‏

حدّ القذف

10 - لا حدّ على المسلم أو الذّمّيّ إذا قذف حربيّاً ولو مستأمناً، باتّفاق المذاهب الأربعة؛ لعدم إحصان المقذوف، بسبب كفره‏.‏ أمّا لو قذف المستأمن مسلماً فعليه الحدّ؛ لأنّه بدخوله دار الإسلام بالأمان التزم إيفاء حقوق العباد، وحدّ القذف حقّ للعبد، وهذا ما اتّفق عليه الفقهاء عند الحنفيّة والمالكيّة - ما عدا أشهب - وعند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وفي المدوّنة‏:‏ إذا قذف الحربيّ في دار الحرب مسلماً بالزّنا ثمّ أسلم ودخل دار الإسلام فإنّه لا حدّ عليه‏.‏

اختلاف الدّين

1 - اختلاف الدّين يستتبع أحكاماً شرعيّةً معيّنةً، كامتناع التّوارث‏.‏ واختلاف الدّين الّذي يستتبع تلك الأحكام إمّا أن يكون اختلافاً بالإسلام والكفر، فهذا يستتبع أحكام اختلاف الدّين اتّفاقاً، وإمّا أن يكون الشّخصان كافرين، إلاّ أنّ كلّاً منهما يتبع غير ملّة صاحبه، كأن يكون أحدهما يهوديّاً والآخر مجوسيّاً‏.‏ وفي هذا النّوع اختلاف يتبيّن ممّا يلي‏:‏

ومن أهمّ الأحكام الّتي تبنى على اختلاف الدّين‏:‏

أ - التّوارث‏:‏

2 - اختلاف الدّين أحد موانع التّوارث، لبناء التّوارث على النّصرة، فلا يرث الكافر المسلم اتّفاقاً‏.‏ إلاّ أنّ أحمد يرى توريث الكافر بالولاء من عتيقه المسلم‏.‏ وروي مثله عن عليّ وعمر بن عبد العزيز‏.‏ ولو أسلم الكافر قبل قسمة التّركة ورث عند أحمد ترغيباً له في الإسلام‏.‏ وفي ميراث المسلم من المرتدّ خلاف‏.‏ ولا يرث المسلم كافراً، عند الجمهور، وروي توريثه عن بعض الصّحابة، لما في الحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» والحديث الآخر «الإسلام يزيد ولا ينقص»‏.‏ وأمّا توارث أهل الكفر فيما بينهم، فعند الإمامين أبي حنيفة والشّافعيّ وفي رواية عن أحمد‏:‏ يثبت التّوارث بينهم وإن اختلفت مللهم؛ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ ولأنّ الكفّار على اختلاف مللهم كالنّفس الواحدة في معاداة المسلمين‏.‏ وعند مالك‏:‏ هم ثلاث ملل‏:‏ فاليهود ملّة، والنّصارى ملّة، ومن عداهم ملّة‏.‏ وعند أحمد في رواية عنه‏:‏ هم ملل شتّى؛ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً‏}‏ ولحديث‏:‏ «لا يتوارث أهل ملّتين شتّى»‏.‏

ب - النّكاح‏:‏

3 - لا يتزوّج كافر مسلمةً، ولا يتزوّج مسلم كافرةً إلاّ أن تكون من أهل الكتاب‏.‏ وإن أسلم أحد الزّوجين الكافرين فرّق بينهما إن كان لا يحلّ ابتداءً النّكاح بينهما‏.‏ وتفصيل ذلك موطنه ‏(‏النّكاح‏)‏‏.‏

ج - ولاية التّزويج‏.‏

4 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر أحد موانع ولاية التّزويج باتّفاق المذاهب الأربعة‏.‏ فلا يلي كافر تزويج مسلمة، ولا مسلم تزويج كافرة، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا‏}‏‏.‏ واستثنوا جميعاً تزويج المسلم أمته الكافرة؛ لأنّه إنّما يزوّجها بالملك لا بالولاية، وتزويج السّلطان المسلم أو نائبه المرأة الكافرة إن تعذّر وليّها الخاصّ‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ إن زوّج المسلم ابنته الكافرة لكافر، يترك فلا يتعرّض له، وقد ظلم نفسه‏.‏ أمّا إن اختلف الدّين بغير الإسلام والكفر، كتزويج اليهوديّ مولّيته النّصرانيّة، وعكسه، فقد صرّح الشّافعيّة بجواز ذلك‏.‏ ولم يصرّح به غيرهم، وعند الحنابلة يتخرّج على الرّوايتين في التّوريث، والمقدّم منعه‏.‏

د - الولاية على المال‏:‏

5 - لا تثبت هذه الولاية لغير المسلم على المسلم، لقول اللّه تعالى‏.‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ صرّح بذلك الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ولم يصرّحوا بمنع ولاية المسلم على الكافر، إلاّ أنّهم صرّحوا بولاية القاضي المسلم على المحجور عليه الذّمّيّ‏.‏ ولم يتعرّض المالكيّة لهذه المسألة وإن صرّحوا في الوصيّ خاصّةً أنّ من شرطه الإسلام‏.‏

هـ - الحضانة‏:‏

6 - للفقهاء في أثر اختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة ثلاث اتّجاهات‏:‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحضانة لا تثبت للكافر على المسلم ولو كان الكافر أمّاً، وتثبت للمسلم على الكافر‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه لا أثر لاختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة حتّى ولو كان الحاضن كافراً مجوسيّاً أو غيره، وكان المحضون مسلماً‏.‏ وسواء أكان الحاضن، ذكراً أو أنثى‏.‏ فإن خيف على المحضون من الحاضن فساد، كأن يغذّيه بلحم خنزير أو خمر، ضمّ إلى مسلم ليكون رقيباً عليه، ولا ينزع منه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين حضانة النّساء وحضانة الرّجال، فلا يشترط عندهم اتّحاد الدّين بين المرأة الحاضنة وبين المحضون‏.‏ كذا في بدائع الصّنائع نقلاً عن الأصل‏.‏ وعلّله بأنّ الشّفقة على المحضون المطلوبة لا تختلف في الحاضنة باختلاف الدّين‏.‏ قال‏:‏ وكان الرّازيّ من الحنفيّة يقول بالنّسبة لحضانة الأمّ إذا كانت كتابيّةً وولدها مسلم‏:‏ إنّها أحقّ بالصّغير والصّغيرة حتّى يعقلا‏.‏ فإذا عقلا سقط حقّها لأنّها تعوّدهما أخلاق الكفرة‏.‏ وقيّده في النّهر بسبع سنين‏.‏ وإن خيف منها أن يألف الكفر ينزع منها وإن لم يعقل‏.‏ أمّا حضانة الرّجل فيمنع استحقاقها عند الحنفيّة اختلاف الدّين، فلا حقّ للعصبة في حضانة الصّبيّ إلاّ أن يكون على دينه، لأنّ هذا الحقّ لا يثبت إلاّ للعصبة، واختلاف الدّين يمنع التّعصيب، فلو كان للصّبيّ اليهوديّ أخوان أحدهما مسلم والآخر يهوديّ فحضانته لأخيه اليهوديّ لأنّه عصبته‏.‏

و - تبعيّة الولد في الدّين‏:‏

7 - أوّلاً‏:‏ إذا اختلف دين الوالدين بأن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً فإنّ ولدهما الصّغير، أو الكبير الّذي بلغ مجنوناً، يكون مسلماً تبعاً لخيرهما ديناً‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ واشترط الحنفيّة أن يكون الولد وخير أبويه متحدّي الدّار حقيقةً وحكماً كأن يكون خير الأبوين مع الولد في دار الإسلام أو دار الحرب، أو حكماً فقط بأن كان الصّغير في دارنا والأب في دار الحرب‏.‏ فإن اختلفت الدّار حقيقةً وحكماً بأن كان الأب في دارنا والولد في دار الحرب لم يتبعه‏.‏ أمّا عند المالكيّة فإنّ الولد غير المميّز يتبع في الإسلام أباه فقط لا أمّه ولا جدّه‏.‏

8 - ثانياً‏:‏ إذا اختلف دين الوالدين ولم يكن أحدهما مسلماً، فإنّ الولد غير المميّز يتبع خيرهما ديناً عند الحنفيّة‏.‏ ومقتضى قول المالكيّة أنّ الولد تبع لأبيه في الدّين دون أمّه، واضح‏.‏ وعند الشّافعيّة إذا لم يكن أحدهما مسلماً واختلفت ملّتهما فإنّ الولد يتخيّر بعد بلوغه حتّى لو كان أحد الأبوين نصرانيّاً والآخر يهوديّاً وكان لهما ولدان فاختار أحدهما اليهوديّة والآخر النّصرانيّة حصل التّوارث بينهم‏.‏ ولم يعثر للحنابلة على نصّ في هذه المسألة‏.‏

ز - النّفقة‏:‏

9 - لا يمنع اختلاف الدّين وجوب نفقة الزّوجيّة اتّفاقاً، وكذلك نفقة المماليك‏.‏ أمّا النّفقة على الأقارب فيمنعها اختلاف الدّين‏.‏ فلا يجب على الشّخص نفقة قريبه إن لم يكن دينهما واحداً‏.‏ ولم يختلف في هذا في غير عمودي النّسب‏.‏

10 - أمّا عمودا النّسب، وهما الأصول والفروع ففيهما اتّجاهان‏:‏ الأوّل‏:‏ تجب النّفقة لهم سواء اتّفق الدّين أم اختلف وهذا مذهب جمهور العلماء‏:‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وهو رواية مرجوحة عند الحنابلة، إلاّ أنّ المالكيّة يقصرون نفقة الأصول والفروع على الوالدين والولد، ولا يوجبونها للأجداد والجدّات وولد البنين‏.‏ واستثنى ابن الهمام الحربيّين منهم فلا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين؛ لأنّا نهينا عن البرّ في حقّ من يقاتلنا في الدّين‏.‏ ودليل هذا الاتّجاه أنّ هذا القريب يعتق على قريبه فيجب عليه نفقته، وأنّ وجوب النّفقة هنا بحقّ الجزئيّة والبعضيّة بين الوالد والولد، ولا يختلف ذلك باختلاف الدّين، وجزء المرء في معنى نفسه‏.‏ والاتّجاه الثّاني‏:‏ لا تجب نفقتهم مع اختلاف الدّين‏.‏ وهو مذهب الحنابلة‏.‏ ودليله أنّها مواساة تجب على سبيل البرّ والصّلة، فلم تجب مع اختلاف الدّين كنفقة غير عمودي النّسب؛ ولأنّهما غير متوارثين، فلم يجب لأحدهما نفقة على الآخر‏.‏

ح - العقل ‏(‏حمل الدّية‏)‏‏:‏

11 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر يمنع العقل، فلا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر، باتّفاق المذاهب الأربعة، حتّى لقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ بيت مال المسلمين يعقل عن المسلم إن عجزت عاقلته، ولا يعقل عن كافر ذمّيّ أو معاهد، أو مرتدّ؛ لاختلاف الدّين‏.‏ ثمّ قد صرّح المالكيّة والحنابلة أنّه لا يعقل يهوديّ عن نصرانيّ، ولا نصرانيّ عن يهوديّ‏.‏ وخالفهم الحنفيّة والشّافعيّة، فالكفّار عندهم يتعاقلون وإن اختلفت مللهم‏.‏ قال صاحب الدّرّ‏:‏ لأنّ الكفر ملّة واحدة، وفي نهاية المحتاج اشتراط اتّحاد الدّار‏.‏

ط - الوصيّة‏:‏

12 - يتّفق الحنفيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة على صحّة الوصيّة إذا صدرت من مسلم لذمّيّ، أو من ذمّيّ لمسلم، واحتجّ لذلك بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين‏}‏، ولأنّ الكفر لا ينافي أهليّة التّملّك، فكما يصحّ بيع الكافر وهبته فكذلك الوصيّة‏.‏ ورأى بعض الشّافعيّة أنّها إنّما تصحّ للذّمّيّ إذا كان معيّناً، كما لو قال‏:‏ أوصيت لفلان‏.‏ أمّا لو قال‏:‏ أوصيت لليهود أو للنّصارى أو حتّى لو قال‏:‏ أوصيت لفلان الكافر فلا تصحّ؛ لأنّه جعل الكفر حاملاً على الوصيّة‏.‏ أمّا المالكيّة فيوافقون من سواهم على صحّة وصيّة الذّمّيّ لمسلم‏.‏ أمّا وصيّة المسلم لذمّيّ فيرى ابن القاسم وأشهب الجواز إذا كانت على وجه الصّلة، بأن كانت لأجل قرابة، وإلاّ كرهت‏.‏ إذ لا يوصي للكافر ويدع المسلم إلاّ مسلم مريض الإيمان‏.‏ وصرّح الحنفيّة كما في الطّحاويّ على الدّرّ، وغيره، بأنّ الكافر إذا أوصى لكافر من ملّة أخرى جاز، اعتباراً للإرث، إذ الكفر كلّه ملّة واحدة‏.‏

ي - الشّركة‏:‏

13 - لا يمنع اختلاف الدّين قيام الشّركة بين المسلم والكافر‏.‏ واشترط المالكيّة والحنابلة ألاّ ينفرد الكافر بالتّصرّف لأنّه يعمل بالرّبا ولا يحترز ممّا يحترز منه المسلم‏.‏ قال الحنابلة‏:‏ وما يشتريه الكتابيّ أو يبيعه من الخمر بمال الشّركة أو المضاربة فإنّه يقع فاسداً وعليه ضمانه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ شركة الذّمّيّ لمسلم صحيحة بقيد حضور المسلم لتصرّف الكافر‏.‏ وأمّا عند غيبته عنه وقت البيع والشّراء فلا يجوز، ويصحّ بعد الوقوع‏.‏ وبعد ذلك إن حصل للمسلم شكّ في عمل الذّمّيّ بالرّبا استحبّ له التّصدّق بالرّبح فقط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلكم رءوس أموالكم‏}‏ وإن شكّ في عمله بالخمر استحبّ له التّصدّق بالرّبح ورأس المال جميعاً لوجوب إراقة الخمر على المسلم‏.‏ وإن تحقّق وجب التّصدّق‏.‏ وذكر الحنابلة أنّ الذّمّيّ المجوسيّ تكره مشاركته أصلاً وتصحّ بالقيود السّابقة‏.‏ والشّافعيّة يعمّمون الكراهة في مشاركة كلّ كافر‏.‏ أمّا الحنفيّة فإنّهم اشترطوا في المفاوضة خاصّةً التّساوي في الدّين، فتصحّ بين مسلمين، وبين نصرانيّين ولا تصحّ بين مسلم ونصرانيّ؛ لأنّ من شرطها التّساوي في التّصرّف ‏"‏ لأنّ الكافر إذا اشترى خمراً أو خنزيراً لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالةً من جهته فيفوت شرط التّساوي في التّصرّف»‏.‏ وأجازها أبو يوسف مع الكراهة، وعلّل الكراهة بأنّ الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود‏.‏ وأمّا بين كافرين مختلفي الملّة كيهوديّ ونصرانيّ فتصحّ عند الحنفيّة وأمّا شركة العنان فتصحّ بين المسلم والكافر أيضاً‏.‏ وفي البدائع أنّ شركة المضاربة تصحّ بينهما أيضاً ولم يتعرّضوا لاختلاف الدّين في شركة الوجوه وشركة الأعمال‏.‏

ك - حدّ القذف‏:‏

14 - إذا قذف الذّمّيّ بالزّنا مسلماً أو مسلمةً فعليه حدّ القذف، إذا تمّت شروطه، باتّفاق المذاهب‏.‏ وإذا قذف المسلم أو المسلمة كافراً، ذمّيّاً أو غيره، فلا حدّ عليه اتّفاقاً كذلك؛ لأنّ إحصان المقذوف شرط إقامة الحدّ، والإحصان شرطه الإسلام‏.‏ وفي هذه الحالة يعزّر القاذف لأجل الفرية‏.‏ وخالف سعيد بن المسيّب وابن أبي ليلى فيمن قذف ذمّيّةً لها ولد مسلم، فقالا‏:‏ يحدّ لذلك‏.‏

اختلاف المطالع

انظر‏:‏ مطالع‏.‏

اختلال

التّعريف

1 - الاختلال لغةً مصدر اختلّ‏.‏ وأصله يكون من الخلل، وهو الفساد والوهن في الرّأي والأمر، كأنّه ترك منه موضع لم يبرم ولا أحكم‏.‏ ومن هنا فإنّ الاختلال إمّا حسّيّ وإمّا معنويّ‏.‏ فالحسّيّ نحو اختلال الجدار والبناء‏.‏ والمعنويّ بمعنى الفقر والحاجة‏.‏ والاختلال في اصطلاح الفقهاء لا يبعد عن المعنى اللّغويّ المذكور، إذ يأتي بمعنى مداخلة الوهن والنّقص للشّيء أو الأمر‏.‏ ومنه ‏"‏ اختلال العقل ‏"‏، وهو العته الّذي يختلط معه كلام صاحبه فيشبه مرّةً كلام العقلاء، ومرّةً كلام المجانين، ‏"‏ واختلال العبادة أو العقد ‏"‏ بفقد شرط أو ركن أو فسادهما، ‏"‏ واختلال الرّضا ‏"‏ بالإكراه أو تفريق الصّفقة أو غيرهما، ‏"‏ واختلال الضّبط ‏"‏ لدى الرّاوي الّذي يتبيّن بمخالفته روايات الثّقات‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - أ - الإخلال‏:‏ هو فعل الشّخص إذا أوقع الخلل بشيء ما، والاختلال مطاوعة، ‏"‏ والإخلال ‏"‏ بالعهد والعقد عدم الوفاء بهما، وإخلال التّصرّف بالنّظام العام أو الآداب كونه مخالفاً لهما‏.‏

ب - الفساد والبطلان‏:‏ الاختلال أعمّ من الفساد والبطلان، إذ يدخل فيه اختلال العبادة أو العقد أو غيرهما بنقص بعض المكمّلات الّتي لا يقتضي نقصها بطلاناً ولا فساداً، كترك إزالة النّجاسة نسياناً بالنّسبة إلى الصّلاة، وترك المبيت بمنًى للحاجّ، وترك الإشهاد على البيع، أو بفعل مخالف لمقتضى الكمال في العبادة أو التّصرّف، كالحركة اليسيرة في الصّلاة، وكإيقاع البيع بعد نداء الجمعة عند من لا يبطله بذلك‏.‏ فإنّ كلّ ذلك لا يقتضي فساداً ولا بطلاناً، ولا تخرج به العبادة أو التّصرّف عن الصّحّة، ولكن تفقد بعض الكمال‏.‏

الحكم الإجماليّ

يتعرّض الفقهاء للاختلال في مواضع كثيرة من كلامهم، ومن أبرزها ما يلي‏:‏

3 - أ - قسّم الشّاطبيّ وغيره التّكاليف الشّرعيّة ثلاثة أقسام‏:‏ الضّروريّات، والحاجيّات، والتّحسينات ‏(‏أو التّكميليّات‏)‏، ثمّ قعّد الشّاطبيّ لتأثير اختلال كلّ منها فيما سواه ممّا له ارتباط به خمس قواعد‏:‏

1 - أنّ الضّروريّ أصل لما سواه من الحاجيّ والتّكميليّ‏.‏

2 - أنّ اختلال الضّروريّ يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق‏.‏

3 - أنّه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضّروريّ‏.‏

4 - أنّه قد يلزم من اختلال التّحسينيّ بإطلاق، أو الحاجيّ بإطلاق، اختلال الضّروريّ بوجه ما‏.‏

5 - أنّه ينبغي المحافظة على الحاجيّ والتّحسينيّ والضّروريّ‏.‏ ثمّ أطال في بيان ذلك فليرجع إليه من شاء‏.‏

ب - الاختلال في العبادات‏:‏

4 - الخلل في العبادة إمّا أن يكون بترك شرط فيها أو ركن أو واجب أو مستحبّ، أو بارتكاب محظور فيها أو مكروه‏.‏ وقد يترك ذلك، أو يفعل عمداً أو خطأً أو نسياناً‏.‏ ثمّ قد يؤدّي بعض ذلك إلى بطلان العبادة أو فسادها‏.‏ وقد يمكن تدارك المتروك أحياناً أو يجبر بنحو سجود سهو أو فدية أو قضاء أو غيرهما‏.‏ وينظر تفصيل كلّ ذلك في مواضعه ‏(‏ر‏:‏ استدراك‏.‏ بطلان‏.‏ سهو‏.‏ فدية‏.‏ فساد‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏‏.‏

ج - اختلال العقود‏:‏

5 - اختلال العقد إن كان بخلل في ركن العقد فإنّه يمنع انعقاده‏.‏ فبيع الصّبيّ غير المميّز وبيع المجنون وشراؤهما باطل‏.‏ وإن كان بخلل في غير الرّكن بل في بعض أوصافه الخارجة، كما إذا كان المبيع مجهولاً، أو كان الخلل في أوصاف الثّمن، فإنّ ذلك لا يوجب البطلان بل قد يوجب الفساد‏.‏ وهذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وقد يختلّ تنفيذ العقد نتيجةً لحادث لا مجال معه لتنفيذ العقد على الصّورة الّتي تمّ التّعاقد عليها، كما في حالة تفرّق الصّفقة بهلاك بعض المبيع أو استحقاقه‏.‏ وهذا يؤدّي إلى تعيّب رضا الطّرف الآخر، فيوجب الخيار‏.‏ وكذلك قد يختلّ رضا أحد العاقدين بوجود العيب في المبيع أو الثّمن المعيّن، فيثبت الخيار، جبراً لذلك‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ «لأنّ السّلامة لمّا كانت مرغوبةً للمشتري، ولم تحصل، فقد اختلّ رضاه‏.‏ وهذا يوجب الخيار؛ لأنّ الرّضا شرط صحّة البيع؛ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض منكم‏}‏ فامتناع الرّضا يمنع صحّة البيع، واختلاله يوجب الخيار فيه، إثباتاً للحكم على قدر الدّليل»‏.‏ وللتّوسّع في ذلك ‏(‏ر‏:‏ خيار‏)‏‏.‏